تتأخر الأفكار حتى تنجح – روبرت و سايروس ماكورميك

لعله من أصعب المواقف التي تمر على الواحد منا هي حين يملك فكرة جديدة، تساعد فعلا على تقليل النفقات وزيادة الإنتاج ومن ثم تأتي بالربح الكثير، لكن رغم ذلك يرفض الناس الاقتراب من الفكرة أو شراء المنتج الذي يجعل كل هذا يتحقق. لكن الأصعب منها حين تسيطر هذه الفكرة على عقل الفرد منا، فلا يجد الأدوات والتقنيات التي تساعده على تحويلها من مجرد فكرة إلى منتج فعلي ناجح. آل ماكورميك في الولايات المتحدة خير مثال على هذه الحالة.

البداية مع الأب: روبرت ماكورميك

كان هذا حال الأمريكي روبرت ماكورميك  Robert McCormick المولود في عام 1780، الذي عمل كمزارع ثم انتقل للعمل في ورشة حدادة ليصنع للمزارعين معداتهم ويصلحها لهم، لكنه كان كذلك ذا عقل مخترع، أراد أن يوفر للمزارعين الأمريكيين وقتهم وتعبهم ويزيد إنتاجية حقولهم ومن ثم إنتاجهم من حقول القمح، ففي هذا الوقت من الزمان، كان الوقت المناسب لحصاد وجمع محصول القمح يستمر عدة أيام قليلة، وكانت قدرة الحاصد الواحد من بني البشر فدانا واحدا من القمح لكل يوم عمل في الحصاد اليدوي، يليها فترة خمول طويلة يقضيها المزارع في مراقبة محصول القمح التالي وهو يكبر حتى يبلغ وقت الحصاد. (تكلفة الاستعانة بعمالة مؤقتة أو شراء عبيد للحصاد كانت أكبر من منافعها، كما أن هذه العمالة كانت نادرة في هذا الوقت).

المشكلة: وقت قليل وعمالة قليلة وفرص ضائعة

وفق هذه المعادلة، لم يكن من المجدي زيادة المساحة المزروعة بالقمح، ما لم يكن لدى المزارع الأيدي العاملة القادرة على حصاد كل المحصول قبل أن يفسد ويذبل على أرضه، وشغلت هذه المشكلة تفكير روبرت، الذي أخذ ينمي مهاراته ويقرأ ما توفر تحت يده من منشورات تحدثت عن عالم الزراعة، وتبادل المعلومات والخبرات مع أقرانه من المزارعين. كان روبرت مخترعا يصنع ما يريده من آلات مستخدما ما توفر تحت يده من موارد، حتى أنه سجل براءات اختراعات لعدة آلات زراعية، ركزت كلها على محاولة تسهيل عملية زراعة القمح.

سايروس ماكورميك

رزق الله روبرت ابنا شاركه حبه للآلات وللاختراعات، اسماه سايروس (Cyrus McCormick)، ورث عنه اهتمامه بالوصول إلى حل آلي يساعد على حصد مساحات أكبر من محصول القمح بمجهود قليل. تعود محاولات حل هذه المعضلة الزراعية إلى أيام الرومان، ورغم أن أفكارا كثيرة تجسدت في صورة حاصدات شبه آلية خرجت من أذهان مخترعين كثرة في انجلترا وأمريكا، لكن إقناع المزارعين المتشككين كان عملية شديدة الصعوبة، يزيد من وعورتها ارتفاع أثمان هذه الحاصدات بشكل يفوق قدرات المزارعين العاديين، كما أن عددا كبيرا من هذه الآلات الحاصدة كان يعطي نتائج متواضعة في أفضل الظروف.

الحاصدة الميكانيكية الأولى لآل ماكورميك

في صيف 1831، حين بلغ سايروس الابن عامه الواحد والعشرين، كان يعمل على تحسين اختراع حاصدة آلية معدنية اخترعها أبوه في عام 1816 ثم انصرف عنها إلى أشياء أخرى، على أن روبرت لاحظ أن هذه الأخيرة تحمل مؤشرات إيجابية تفيد على قدرتها على النجاح، رغم ما فيها من عيوب ونواقص. بالتعاون معا، تمكن الأب والابن من صنع حاصدة يجرها الحصان (أو الثور) تمكنت من حصاد ثمانية فدادين في يوم واحد. في هذا الوقت، كانت الحاصدة تقتلع سيقان القمح وتجمعها معا ثم تضعها على الأرض.

العدو هو الخوف من الجديد

في سبتمبر 1833 بدأ سايروس في الدعاية لآلته الحاصدة الجديدة بعدما أدخل عليها تعديلات عدة، مقابل 50 دولار، لكن لم يشتريها أحد. كان المزارعون يشاهدون العروض التجريبية لآلة الحصاد، ثم يحجمون عن الشراء، خوفا من تجربة شيء جديد عليهم تماما، لكن خوفهم من ترك عاداتهم القديمة والموروثة كان أشد. كان البعض يشكو من جفول الجياد خوفا من هذه الآلات، والبعض الآخر شكا من تعطل هذه الحاصدات وعدم قدرتهم على إصلاحها بعدها. كان هذا الخوف مبررا، فمن يشتري آلة يخزنها طوال العام ثم يستعملها لمدة أسبوعين استعمالا كثيفا، كان يفكر في إجابة السؤال: ما العمل إذا حدث وتعطلت هذه، من سيصلحها للمزارع بشكل سريع، خاصة وأن المحصول لن ينتظر أحدا.

عشر سنوات عجاف

على مر عشر سنوات تالية (منذ 1833)، لم يتمكن سايروس ماكورميك من بيع حاصدة واحدة، ولم يذكر التاريخ أن سايروس وأباه فكرا في عرض آلتهم هذا للإيجار، أو تكوين فرق للإيجار لحصد محصول القمح، ولزيادة الطين بلة، كانت أسعار بيع القمح آخذة في الانخفاض، ورغم أن عام 1836 شهد فيه محصول القمح انخفاضا كبيرا في الإنتاج بسبب عوامل جوية، لكن وجب الانتظار حتى حلول عام 1842 والذي شهد بيع سبع حاصدات، ذلك أن سايروس – الذي أخذ يطور آلته الحاصدة ويجعلها حلا متكاملا تقطع وتجمع وتحزم وترمي عيدان القمح – بدأ يحاول بيع حاصداته خارج نطاق مدينته وفي أكثر من موقع، عبر تأسيس وكالات له، وعبر بيع حقوق التصنيع والبيع لغيره، وبدأ يقدم ضمانات بأن المُزارع الذي يشتري حاصدته سيستعيد ما دفعه فيها خلال عام واحد من الشراء بسبب الوفر الذي ستدره عليه.

أول الغيث – من خارج المدينة ثم المنافسة

مع بدء تغير طريقة التفكير بشكل عام، وبدء تقبل القاسم الأكبر من الناس لضرورة استعمال الآلات بشكل أو بآخر في حياتهم، وأنهم إن استعملوا الآلات لتمكنوا من زيادة أرباحهم، معها بدأت كذلك المنافسة تدق الباب، وبدأ آخرون يقدمون حاصدات أفضل من تلك التي حملت اسم ماكورميك، الذي وجد أن بيع حقوق التصنيع لحاصداته، كاملة وقطع غيار، للغير ساعده على التغلب على القدرة التصنيعية المحدودة للمصنع الذي اشتراه مستعملا.

المنافسة تفيد ولا تضر

هذه المنافسة هي التي ساعدت حاصدات سايروس على الازدهار، ففي عام 1845 ألغت بريطانيا قوانين حماية مزارعيها من المنافسة الدولية، ما جعل الطلب العالمي على القمح الأمريكي يزيد بشدة، وبدأ سايروس يبيع 1500 حاصدة سنويا في عام 1849. مع الزيادة في الطلب على آلاته، بدأ سايروس يلاحظ انخفاضا في جودة منتجات من اشتروا حقوق تصنيع حاصداته، ولذا استغل الحريق الذي أتى على مصنعه القديم بالكامل، وبدأ يرحل نحو أماكن الطلب المرتفع على آلاته، ليكون قريبا من عملائه، في أول خطوة تشهد تطبيق نظرية موقع المصنع، أو التصنيع بالقرب من أسواق الاستهلاك الكبيرة، كان هذا في وقت يختار رجال الأعمال إنشاء مصانعهم بالقرب من بيوتهم ومن مصادر الطاقة والعمالة الرخيصة.

الحياة كساد ثم رواج ثم كساد ثم …

بعدها بدأ اقتصاد الولايات الأمريكية يتعافى من الكساد الذي ألم بها، وأثبتت خطوة الانتقال شمالا نحو ولايات مزارع القمح جدواها والرؤية السديدة والبعيدة التي توفرت لسايروس، هذا التوجه جعله قريبا من الأراضي المناسبة لزراعة القمح، وقريبا من الولايات التي اتجهت لزارعة القمح على نطاق كبير. كذلك ساعدت نهضة صناعة القطارات البخارية – وقتها – في تسهيل شحن آلاته عبر الولايات الأمريكية وبسرعة مقبولة في ذاك الوقت.

سهولة شحن منتجاتك أمر عظيم الأهمية

هذا الارتحال شمالا جعله كذلك قادرا على شحن آلاته خارج أمريكا لقربه من الساحل ومن الموانئ، وتحديدا إلى إنجلترا، حيث سافر سايروس بنفسه ليبهر الفلاحين الانجليز بالأداء المتفوق لحاصداته – مقارنة بالآلات التي كان يستعملها المزارعون الانجليز، لكن مرة أخرى، لم يتقبل أولئك المزارعين الانجليز فكرة شراء آلة مثل هذه، حتى أن بعض المؤرخين لهذه الحقبة يرون أن سايروس كان أقدر على فهم المزارعين الأمريكيين من بني جلدته، في حين استعصى عليه فهم نظرائهم الأوربيين.

التطوير والترويج والتسويق – كلها مقومات النجاح

كانت الحاصدات في كل سنة تنال حظها من التطوير والتحسين والتغيير، وكان سايروس منغمسا في متابعة – ما يمكن لنا تسميته اليوم – قسم الأبحاث والتطوير في شركته، لكن الكل يجمع على أن براعة سايروس في مجال المبيعات والدعاية والترويج لمنتجاته هو السبب الأول لنجاحه الباهر، كما لم يثبت أن سايروس قاضى مزارعا تأخر في سداد أقساط الحاصدة التي اشتراها، بل كان يصبر عليه حتى موسم الحصاد التالي، وكان يفعل المثل إذا وجد أن حصاد حقول القمح جاء قليلا لسبب أو لآخر، كما كان يقدم ضمانات مكتوبة أنه إذا لم تتمكن آلته من حصاد فدان ونصف خلال ساعة واحدة فإنه سيعيد ثمن الحاصدة إلى مشتريها.

للحروب بعض الفوائد

مضت الأيام هانئة حتى جاءت نذر الحرب الأهلية الأمريكية (1861 – 1865)، لكن هذه تحولت لتكون أنباء سعيدة، إذ خرج العمال والمزارعين والعبيد للانضمام إلى الحرب، ما ترك المزارع تبحث عمن يحصدها، وهذه أجبرت الجميع على التوجه لشراء الآلات، حتى أن مصنع شيكاجو باع 500 حاصدة إضافية فوق طاقته القصوى في عام 1862، وبعدما كان إجمالي المبيعات السنوية للحاصدات 16 ألف، إذا بها تقفز في خمس سنوات إلى 80 ألف حاصدة مباعة في العام الواحد.

الختام مع تجارة العقارات

مع كل هذا التطور، كان الطلب العالمي على القمح إلى ازدياد، لكن سايروس بدأ يوجه ثروته إلى الاستثمار في العقارات وصناعة القطارات، ولهذا وبدءا من عام 1860 بدأ اهتمام سايروس بتطوير صناعة الحاصدات الآلية يقل، ربما لكبر سنه، وربما لاهتمامه بأمور كنيسته أكثر، وربما بسبب بعض مغامراته ومواقفه السياسية، لكن ولاية شيكاجو تدين له بالفضل الكبير في نمو زراعتها وصناعتها وتجارتها، التي كانت تصدّر في عام 1839 قرابة 80 شوال قمح، لتصدّر بعدها بعشر سنوات مليوني شوال بفضل حاصدة سايروس وأبيه.

الدروس والعبر من قصة سايروس ماكورميك

  • لم ييأس روبرت ماكورميك الأب أبدا على مدى 28 عاما عمل فيها لتحقيق فكرته، ونقل إيمانه بفكرته إلى ابنه الذي حقق له الحلم
  • المقاومة الشديدة التي واجهت سايروس في البداية وانعدام المبيعات لمدة سنوات عشرة لم تثنيه عن تحسين منتجه وعن الاستمرار في محاولات البيع، والبحث عن وسائل جديدة تحقق له المبيعات.
  • الأزمات الاقتصادية وفترات الكساد والحروب، كلها فرص ذهبية، تنتظرك لكي تنقب عنها وتحولها إلى منافع لك ولمنتجك وصناعتك.
  • اتجه سايروس خلال الثلاثينات إلى الاستثمار في مصنع لصهر الحديد، لكنه خسر فيه كل ماله، فاضطر بعدها للتفتيش في دفاتره القديمة فوجد آلة الحصاد، فعاد إليها وطورها ونقحها. حين ينسد أمامك باب، لا تحدق فيه طويلا، بل ابحث عن باب آخر يمكن أن تفتحه.
  • كان منتجه ذا جودة عالية، لكن اجتهاد سايروس في مجال المبيعات والترويج والدعاية هو ما جلب له المبيعات، فلا هذا وحده يكفي ولا ذاك منفردا.
  • الرؤية البعيدة وقراءة كيف سيتطور السوق في المستقبل والعمل وفق هذه الرؤية يعطي ثماره بوفرة.
  • ابحث عن منتج / فكرة تخفض التكاليف وتزيد المبيعات، واجتهد في التسويق وتيسير المبيعات، وسيقبل عليك المشترون ولو بعد حين.
14 ردود
  1. مختار الجندى
    مختار الجندى says:

    ربما أصعب شئ يقابلك فى التسويق لمنتجك هو تعود المستهلكين على منتج بعينه أ, لنمط وطريقه تقليديه وتطور ذلك الى مراحل الولاء الشديد للمنتج والذى يصعب من دورك فى تغير توجه العملاء الى منتجك وحتى ان كان اضافه ممتازه لهم ،أرجو الا تطيل علينا أخى شبايك لنرى ما سيفعله ساويرس فى التسويق لمنتجه والتغلب على ولاء المزارعين للطرق التقليديه.

    رد
  2. عندما
    عندما says:

    صح عيدك أخي رؤوف
    تحية مني اليك و الى كل قراء مدونتك المتميزة
    قصة رائعة في انتظار البقية المتميزة كالعادة

    رد
  3. محمد عليبة
    محمد عليبة says:

    كلمة لقراء المدونة : “هي ليست مجرد قصة عادية طالما حكاها لنا شبايك فهي قصة يريد لنا شبايك أن نري فيها شيئاً كعادته وطالما أراد فسنري نحن ما يريد هذا لانه موهوب يغازل الكلمات لنري ما يراه هو ولا نراه نحن عند قراءة نفس الكلمات”

    كلمة لشبايك : ” مقالاتك مثل دور الشطرنج لها افتتاح ومرحلة وسط الدور المليئة بالاشباكات ثم مرحلة النهاية التي تحتاج الي ذكاء كلما قرأت مقالاتك ورواياتك أخرجتني من كل همومي مثل دور الشطرنج تماماً ” ” شكرا لك”

    رد
  4. عبدالله العثمان
    عبدالله العثمان says:

    السلام عليكم

    اخي رؤوف شكرا لموضوعك وقصتك المشوقة وبانتظار البقية

    هناك الكثير من المنتجات والخدمات التي نحجم عنها في عالمنا العربي..

    فاستخدام الانترنت والاعلان فيه قليل جدا مقابل الاستثمار بالاعلان المرئي او المطبوع الغالي الثمن مع ان الاعلان بالانترنت ارخص وله انتشار اكبر..

    كذلك الشراء عن طريق الانترنت والحجوزات لا يتم الاستفادة منها..

    والكثير من الامثلة..

    رد
  5. mahmoud zaghlool
    mahmoud zaghlool says:

    مشكلة كبيرة فعلا وجديرة بالمناقشة وتواجة العديد منا

    واري ان القضاء علي هذة المشكلة تكون بتوعية الفئة المستهدفة(المشترين)

    اعلم ان هذا شيئ صعب ولكنة ليس مستحيلا

    شكرا لك اخي شبايك علي طرحك مثل هذة المواضيع القية

    تحياتي

    رد
  6. شبايك
    شبايك says:

    محمد عليبة
    هو كذلك، لكني لم أنظر لها من منظور “شطرنجي 🙂 ”

    مختار
    في السوق المفتوح الحر، أصبح غالبية العملاء بلا ولاء، بسبب كثرة ووفرة المعروض بدرجة يصعب معها الثبات على منتج واحد، أما إذا كان السوق منغلق غير حر، فلا بديل عن تقديم منتج جديد في فئة جديدة من نوعها..

    رد
  7. صلاح هزاع خليل
    صلاح هزاع خليل says:

    قصة رائعه ومميزة

    المعاناة هى من جعلت من روبرى الاصرار والمثابرة لأبتكار شئ او بالاصح آلات جديدة لمساعدة المزارعين

    وهذى القصة الرائعه تزرع فى قلوبنا حب النجاح ومساعدة الاخرين والتفكير العميق والخيالى فى ابتكار اشياء جديدة تساعدنا فى حياتنا ويستفيد منها الاجيال من بعدنا رأى صلاح

    رد

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *