ما الأصح: المنافسة أم العمل الجماعي أم الاثنين معا؟

,

من الأمثلة الجميلة التي سردتها تينا سيليك (والتي سبق وتحدثنا عنها هنا) في كتابها، مثال على تدريبها فرق الشباب لتفهم طبيعة السوق والحياة، في محاولة منها لتقريب المفهوم الصحيح البناء للمنافسة وضرورة المرونة في التفكير، دون إفراط أو تفريط. هذا التدريب يقوم على مبدأ بسيط: تقسم تينا حضور دورتها / مادتها إلى 6 فرق، ثم تجمعهم معا أمام 5 صور كبيرة وتجعلهم يمعنون النظر فيها لمدة دقيقة أو دقيقة ونصف فقط.

5 صور، 6 فرق

هذه الصور الخمس هي لخمس ألعاب الألغاز المصورة أو جيكسو بازل أو Jigsaw Puzzle أو أحجية الصور المقطوعة. بعدما يرى كل فريق كل صورة، تبدأ تينا في دمج القطع الصغيرة لكل صورة معا، في كومة كبيرة، ثم تخلطها جيدا حتى تتداخل القطع معا، ثم تقوم تينا بتقسيم الكومة إلى 6 حصص متساوية، ثم توزع كل حصة على كل فريق. الفائز في ها التدريب هو أول فريق ينتهي من استكمال كل قطع الأحجية المصورة التي اختارها. حين تنتهي الساعة، تقوم تينا بحساب عدد القطع الصحيحة المتناسقة التي جمعها كل فريق في محاولاته لتجميع الصورة، والحاصل على أكبر عدد من النقاط يكون الفريق الفائز.

ساعة من الزمن

مدة هذا التدريب ساعة واحدة، ولمزيد من الإثارة الفكرية، ولمحاكاة ظروف الحياة، كل 10 دقائق تقوم تينا بعمل شيء عشوائي، مثل أن تأخذ قطعا من فريق وتوزعها على بقية الفرق، أو تجعل عضو فريق يرحل لفريق آخر ويأخذ معه قطعا مصورة وهكذا في بقية الفرق، أو تبيع صور الأحجية الكاملة التي عرضتها في البداية، أو تقيم مزادا علنيا لقطع من ممتلكات كل فريق، أو أي شيء عشوائي مماثل لما يحدث في الحياة الواقعية.

مصير معلوم: لا يستطيع الكل الفوز!

الآن، ولتبسيط المشكلة التي تريد تينا من الحضور تفهمها، اعلم أن هناك 5 ألعاب مقابل 6 فرق، وسيكون على الفرق الستة أن تقرر: هل تريد أن تنافس على إكمال الصورة الكاملة، أم تختار عقد الصفقات مع بقية الفرق، أم الخيارين معا. في البداية، ولضمان نجاح بقية المجموعات، على فريق ما أن يختار طواعية ألا يسعى للمنافسة على جمع كل القطع لتكوين الصورة الكاملة. هذا أمر محتوم من البداية: لا بد وأن يضحي فريق من أجل نجاح بقية الفرق. هذا الموقف يتكرر في الحياة الواقعية، وعليك أن تقرر هل تريد النجاح لنفسك، أم تعمل من أجل نجاح الآخرين.

المنافسة قد تؤدي للفشل

حتى الفرق التي تقرر العمل من أجل جمع جميع القطع، فهي ستبدأ وهي تعرف أن الحصول على جميع القطع أمر صعب إن لم يكن مستحيلا، وأن عليها التفكير في طرق تفاوضية لتحصل على ما ينقصها من بقية الفرق، وأن تصنع قيمة تجعل لما ستفاوض عليه جاذبية لبقية الفرق فتوافق على عمليات المبادلة.

المنافسة تتطلب العمل التعاوني

أول اكتشاف في هذا التدريب، هو أن على كل الفرق التعاون معا من أجل نجاحهم جميعا، ومن يعاند في فهم هذا الأمر سيجعل الكل يفشل ويخسر، وهو معهم وأولهم، وسيثبت لنفسه أنه ليس Team player أو العضو المناسب للعمل مع الفريق والذي يفهم ويطبق وينفذ مبادئ روح الفريق.

الحياة لا تسير على وتيرة واحدة فاستعد لذلك

الاكتشاف الثاني هو أن على كل الفرق التفكير بطريقة ديناميكية مرنة، تقوم على الحركة المستمرة، وإعادة تقييم الهدف من الحركة كل فترة، ذلك لأن طبيعة اللعبة تتغير كل 10 دقائق بفضل قرارات تينا العشوائية، والتي تحاكي ظروف الواقع، فأي شركة معرضة لخسائر غير متوقعة، انهيار السوق، إفلاس مورد، خيانة أمانة من المحاسب، استقالة موظف المبيعات ورحيله مع قائمة من العملاء، وكل هذه الأمور المعتادة في الأعمال.

المنافسة قد تدمرك أنت نفسك

الاكتشاف الثالث هو أن هناك خط رفيع جدا، يفصل ما بين المنافسة والعمل الجماعي، فالمنافسة فقط يمكن أن تجلب لك الخسائر والفشل، في حين أن العمل الجماعي وحده قد لا يعود عليك بأرباح فتضطر لغلق الشركة والتمتع بالإفلاس. الأمر بحاجة لمزيج من الاثنين، لكن نسبة هذا إلى ذاك متغيرة وفق المكان والزمان، وعلى القائد / المدير تحديد هذه النسبة المتغيرة.

المنافسة تعني المرونة الفكرية

من واقع تجارب تينا مع الشباب، وجدت أن بعض الفرق تتيقن من إنه يستحيل عليها الفوز ولذا تقسم نفسها فريقين وتنضم لبقية الفرق من أجل السعي للفوز. بعض الفرق تقرر الاندماج معا من أجل تحسين فرصها في الفوز. في إحدى المرات قرر فريق أن يكون سمسارا، يتولى شراء وبيع القطع التي يحتاجها / لا يحتاجها كل فريق لمساعدة الآخرين على النجاح دون أن ينجح هو. في إحدى المرات اتحدت كل الفرق معا في فريق واحد ضخم وعملوا جميعا من أجل إكمال كل الصور.

المنافسة تخرج أسوأ ما في النفوس – قاوم ذلك

أسوا النتائج لهذه التجربة جاءت حين قررت كل الفرق التنافس وعدم التعاون. هذا التنافس المحموم دفع هذه الفرق لحجب القطع التي تحتاجها بقية الفرق عن عمد وبتعنت لمنعهم من الفوز، الأمر الذى نتج عنه فشل كل الفرق في إكمال أي صورة. الحالة الثانية جاءت حين تقتنع الفرق أنه لا يمكن أن تفوز كلها في ذات الوقت، لكنها تقرر المنافسة لغرض المنافسة رغم ذلك، دون أن يكون لديها استراتيجية واضحة، وتكون النتيجة خسارة الجميع مرة أخرى.

في إحدى المرات، قرر فريق أن يحبس القطع التي تحتاجها بقية الفرق حتى قبيل انقضاء مهلة التدريب بوقت قصير وباعها للآخرين، على أمل أن يتمكن الفريق من استكمال ما نقصه من قطع. على أن السحر انقلب على الساحر، فما حدث فعليا هو أن هذا الفريق انشغل بالتضييق على الآخرين، حتى أنه حين اكتملت لديه القطع لم يجد الوقت الكافي ليضعها في مكانها الصحيح وانتهى به الأمر خاسرا.

هذا التدريب يساعد على تفهم حقيقة أساسية واقعية: في حياة كل منا، ستقابلنا مواقف تكون الموارد فيها قليلة، ويجب عليك ساعتها أن تقرر ترك المنافسة من أجل مساعدة الآخرين على الفوز. هذه القلة من الموارد ستجبرك على أن تسعى للحصول على ما نقصك من موارد، مقابل أن تعطي الآخرين موارد لديك يحتاجونها هم لنجاحهم.

المنافسة غريزة بشرية

المنافسة شيء مغروز في دمائنا وتركيبنا البشري، حتى أننا أحيانا نحب المنافسة لذاتها وليس لما سنحصل عليه من خلالها. الفرق التي قررت المنافسة فقط من أجل أن تخسر بقية الفرق، انتهى بها الأمر خاسرة فاشلة هي الأخرى.

أحيانا سيجب عليك مساعدة الآخرين على النجاح، وعلى أن تحتفل معهم بنجاحهم. حين تتقبل هذه الحقيقة، وتقر بها عينا، ستجد نفسك متفتحتا على أشياء في حياتك ستساعدك على نجاحك أنت، وستتعرف على أناس، تساعدهم على النجاح، فيردوا لك الجميل. بالطبع الدنيا ليست وردية، ستجد آخرين لا هم لهم سوى النجاح الأناني، وستجد الخيانة والطعن في الظهر. هؤلاء لا تشغل نفسك بهم طويلا، تجنبهم وابتعد عنهم وادعُ لهم بالصلاح والفلاح، لكن لا تدعهم يوقفوك عن مطاردة نجاحك.

نافس بذكاء وحكمة، نافس دون أن تؤذي غيرك

تذكر دائما وأبدا: نجاحك لا يعني خسارة غيرك.

نعم، يمكنك أن تنجح وأن ينجح غيرك معك في ذات الوقت.

نعم، لا يلعب الكل بهذه الطريقة من التفكير، لكن هؤلاء سيخسرون ويفشلون إن آجلا أو عاجلا. ثق من ذلك.

أخيرا، كلي ثقة أن هناك البعض لم يفهم بعد المراد من هذه التدوينة ولذا ألخصها له بالمثال التالي: في مباراة كرة القدم، لا يستطيع كل اللاعبين أن يستحوذوا على الكرة وحدهم على أمل إحراز الأهداف، وعلى حارس المرمي أن يقنع أنه لن يكون هداف الموسم، وعلى حكم المباراة أن يقنع أنه لن يحرز أي أهداف في حياته. هكذا الدنيا. لكن، لكي يحرز أي لاعب هدفا، يجب على الجميع التعاون معا، وتمرير الكرة والتقدم والتأخر لصنع فرص تهديفية والضغط على الخصم لقطع الكرة وتمريرها للاعب المناسب وهكذا.

عودة إلى عالمنا العربي، حيث ستجد أن هذه الطريقة من التفكير ليست حاضرة بما يكفي، وربما لن تجد من يدعو لها في إدارة الأعمال. البعض قد يمجد في المنافسة لذاتها وليس في نتائجها، والبعض قد يختار أن يكون انهزاميا ويتمنى الفشل للآخرين، والبعض قد يجد متعته في التضييق على الآخرين ومشاهدتهم يفشلون.

لمثل كل هذه المواقف تجد هذه المدونة، وتجد مثل هذه المقالات ومثل هذه الكتب. يجب أن نغير من هذا الواقع بالدعوة إلى التعاون والتفكير الاستراتيجي، والرضا بنجاح الآخرين وبتأخر نجاحنا حتى ننجح جميعا.

[مصدر الصورة التوضيحية]

8 ردود
  1. أمجد
    أمجد says:

    عزيزي رؤوف..
    هذا المبدأ يتضح جليا في الحياة الدراسية و بالأخص في الدراسة الجامعية خصوصا عندما تكون مغتربا و تسكن مع زملاءك في السكن الطلابي.

    في أيام الامتحانات تجد التعاون من اغلب الزملاء الذين لا يترددون في تقديم المساعدة لمن يحتاجها.

    و بالطبع هناك زملاء اشتهروا بمساعدة الاخرين و اشتهروا كذلك بانهم متفوقين. وعند سؤالهم عن سر تفوقهم فيجيبوا بأن أحد أهم أسباب التفوق هو مساعدتهم لزملائهم.

    فهذه الخدمة التي يقدمونها لزنلائهم تساعدهم على تثبيت المعلومات و إعادة ترتيبها في الذهن و كذلك توسعة المدارك من خلال البحث عن اجابات لأسئلة زملائهم و إلخ.

    و كذلك الحياة العملية..و كما ذكرتَ أن من يساعد الناس سيساعده الناس.

    هذا المبدأ وجدت أثره في حياتي فعلاً

    تحياتي لك

    رد
  2. د محسن النادي
    د محسن النادي says:

    نافس بذكاء وحكمة، نافس دون أن تؤذي غيرك
    …………………………………
    للبعض طبعا ولا اعمم
    نافس : يسنافس وبقوه
    بذكاء: نعم بذكاء وشديد ايضا
    حكمه : حكمته في الامر انا او الطوفان
    اقول ذلك من واقع تجربه مريره مع منافس بدلا من التعاون او التنافس بشرف اصبح يضرب من تحت الحزام لكن في نفسه والحمد لله الذي كفانا شرّه وبلاه
    ……………………..
    سلمت رءوف على هذا المقال

    رد
  3. أحمد سعد
    أحمد سعد says:

    أود أن أضيف مثال سبق أن قرأته عبر أحد الصفحات على الشبكة ، و هي تحكي قصة أحد المدربين الإداريين الذي وزع بالونات على جميع الحاضرين في محاضرته و طلب من كل منهم أن يسجل أسمه عليها و أن يضعها في غرفة واحدة ، و بعد دقائق أمتلأت الغرفه بالبالونات ، بعدها طلب من الحاضرين أن يذهبوا إلى الغرفة ذاتها و أن يحضر كل منهم البالونة الخاصة به ، فذهب الجميع و زاد الهرج و المرج و لم يستطيع أحد أن يحصل على مراده ، بعدها طلب منهم أن يساعدوا بعضهم البعض ، أي أن ينادي كل منهم على أسم صاحب البالونة التي عثر عليها بين يديه ، و في دقائق كانت البالونات الصحيحة في يد جميع المتدربين .

    أراد المحاضر من خلال هذه التجربة العملية أن يثبت حقيقة أنه عندما تساعد غيرك في الوصول إلى هدفه ، فإنه يسهل عليك أيضا الوصول إلى هدفك .

    و هذا يؤكد أن معنى و مغزى هذه المقالة صحيح .

    و شكرا لك شبايك .

    رد
  4. islam adel
    islam adel says:

    مقال رائع جدا وديما موفق . استفسار بخصوص كتاب تينا هل يوجد نسخة مترجمة عربي لاني لا اجده علي النت عربي

    رد
  5. أحمد خليل
    أحمد خليل says:

    أعتقد أن المنافسة القوية والعمل سوياً هو الإفضل بمعني أني أنافسك منافسة شريفة وقوية وفى نفس الوقت أتحد معك ولاتوجد لدي أى مشاكل معك

    رد

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *