ايولا هال، الشمس دائما تشرق بعد المطر

,

جاء ميلاد الأمريكية ايولا هال Eula Hall في أكتوبر 1927 لأبوين فقيرين عملا في فلاحة الأرض في ولاية كنتاكي، الابنة الثانية لسبعة أشقاء، عانوا جميعا من مرض أو آخر. بدورها أكملت تعليمها حتى الصف الثامن ولبعد المدرسة عن مسكنها توقفت عند هذا الحد، لتعمل بعدها في مصنع وعمرها 15 سنة لفترة قصيرة، إذ طردتها إدارة المصنع بعدما قادت ثورة صغيرة اعتراضا على الأحوال السيئة للعاملين في المصنع. بعدها عملت كخادمة، حتى قابلت زوجها عامل المناجم حيث تزوجت وعمرها 17 ربيعا ورُزقت خمسا من الأولاد، ولفقرها ولدتهم في منزلها، وبدون رعاية طبية، فجاء أحدهم قبل وقته أصما، وآخر مات صغيرا.

خلال طفولتها وشبابها، شاهدت ايولا الأطفال الصغار يموتون يمنة ويسرة من حولها، بسبب الفقر وسوء التغذية وانعدام الرعاية الطبية، وبسبب أمراض لها علاج. القاسم المشترك في كل هذه الوفيات كان أن البلدة التي تعيش فيها تفتقر إلى وجود طبيب ومستشفى ومستلزمات طبية.

رغم أنها لم تحصل على قدر من التعليم يؤهلها لذلك، أرادت ايولا تغيير هذا الوضع المأساوي بنفسها، ولذا قررت الادخار على مر سنوات من راتبها القليل وجمعت تبرعات بلغت 1400 دولار مكنتها في عام 1973 (وعمرها 46 سنة) من استئجار مقطورة صغيرة بالقرب من الطريق العام في منطقة اسمها  Mud Creek وافتتحت فيها العيادة الطبية التي كانت تحلم بها.

على أن الأمر الأصعب كان الحصول على طبيب بشري مؤهل للعمل في عيادتها الصغيرة، فمن سيترك بقية المدن والولايات الأمريكية ويأتي لهذا المكان القفر الكئيب؟ حتى الأطباء الذين أبدوا استعدادهم للمساعدة أعرضوا عن ذلك بسبب صعوبة الحصول على مكان مناسب للعيش.

ليست ايولا بمن يستسلم للمشاكل، فهي بحثت عن الأطباء غير الأمريكيين الراغبين في الحصول على البطاقة الخضراء Green Card اللازمة للحصول على الجنسية الأمريكية، والتي بدورها استلزمت شروطها أن يخدم المتقدم في بلاد أمريكية نائية للحصول عليها. أما مشكلة السكن فحلتها ايولا بأن استضافت الأطباء في مسكنها الخاص، وطهت لهم بنفسها الطعام.

وهكذا فتحت العيادة أبوابها، وما أن فعلت حتى هجم عليها المحتاجون لخدماتها، وكان الكثيرون منهم لم يروا طبيبا في حياتهم قط، وكان القادر يدفع ثمنا رمزيا، 5 دولارات مقابل الكشف عليه، وغير القادر فلا حرج عليه، فالعيادة استقبلت الجميع، القادر وغير القادر، وكانت ايولا تقضي النصف الثاني من نهارها في محاولات للحصول على الدواء اللازم وتسليمه لمن يحتاجونه.

بعد فترة من الوقت ومع إقبال المرضى، حولت ايولا منزلها ليكون مقر العيادة بدلا من المقطورة، وانتقلت هي وأولادها للسكن في بيت متنقل. على مر سنوات، جاهدت ايولا للحصول على الأطباء وعلى الدواء وعلى لوازم العلاج والاستشفاء، وتمكنت من ضم عيادتها إلى منظمة طبية غير ربحية، الأمر الذي مكنها من الحصول على معونات حكومية.

في حياتنا جميعا، نوازل ومصائب جسام، تطحن الهمم وتطيح بالقامات، ولله في خلقه شئون، إذ جاء مساء يوم في عام 1982 بنار أشعلها مجهول في العيادة الصغيرة، حتى تركتها حطاما و رمادا… أتت عليها النار كلها. مصيبة كبيرة غير متوقعة، كادت تقضي على آمال ايولا، لولا أنها استشعرت قدر المسؤولية على عاتقها، فهذه العيادة الطبية خدمت وحدها قرابة 15 ألف من سكان المناطق المحيطة، وبعد نوبة بكاء، استجمعت ايولا شجاعتها وأزاحت حزنها وقالت للعاملين: قد تكون العيادة قد احترقت وزالت، لكننا لا زلنا هنا، باقيين.

بسرعة، بدأ عقل ايولا في العمل على التخطيط للخروج من هذه المصيبة، وفي الصباح وقفت بجانب الحطام المحترق تستقبل المرضى، مستعينة بطاولة خشبية، وأقنعت شركة الهاتف أن تصل لها هاتفا عموميا مثبتا على جذع شجرة، ليكون وسيلة الاتصال بهذه العيادة، وبدأ المرضى يصطفون والأطباء يعملون في الحقل الأخضر الممتد بجانب بقايا العيادة. حين أغلقت المدرسة أبوابها في الاجازة الصيفية، نقلت ايولا فريقها الطبي للعمل هناك، وفي الخريف، حملتهم إلى داخل مقطورة طويلة.

جاء الفرج بعد عدة شهور، في صورة تبرع مشروط من جهة حكومية، قام على أساس أنه إذا تمكنت ايولا من جمع 80 ألف دولار من تبرعات سكان المنطقة، فستمنحها هذه الجهة المال اللازم لإعادة بناء العيادة. على الفور بدأت ايولا حملة شاملة للحصول على التبرعات المالية، شملت التحدث في الراديو، وإقامة حفلات عشاء للتبرع، ووقفت في الطريق العام – خاصة في الأيام التالية لصرف مرتبات ومعاشات العمال – تحمل لافتة ودلو معدني، تدعو المارة للتبرع لمشروعها الطبي الجديد. خلال شهور، نجحت ايولا في جمع 120 ألف دولار، أكثر من الثمانين المطلوبة منها، وهي استثمرت الأربعين الزائدة في شراء جهاز تصوير بالأشعة السينية (اكس راي).

خطوة صغيرة تلو الأخرى، و دولار وراء دولار، بدأت ملامح العيادة الجديدة تعلو وتظهر، عيادة حديثة، تتمتع بنظام تبريد وتدفئة مركزي، وساحة لصف السيارات، وهكذا تحول الحريق الصغير إلى نعمة، نتج عنه في عام 1984 افتتاح عيادة كبيرة، تقدم خدمات طبية أفضل، أدت لتخفيف آلام وعلاج مرضى أكثر، وتركت ايولا بصمتها، فهذا المركز يقوم على أساس: ادفع ما تستطيع واحصل على العلاج. أما المرضى الذين لا يجدون العلاج في العيادة، فكانت ايولا تبحث لهم وتدلهم على شخص يستطيع أن يساعدهم بالعلاج اللازم، حتى أنها أقنعت ذات مرة فريق رياضي مشهور لتحمل كلفة إجراء جراحة تصحيح نظر لطفلة صغيرة عانت من الحول.

مهمة ايولا في الحياة هي إنجاح هذه العيادة، ولذا لا تجد حرجا في قيادة سيارة الاسعاف لنقل المرضى المحتاجين للخدمات الطبية، حتى أنها في يوم انقلبت بسيارة الاسعاف وكسرت كتفها، فما كان منها في اليوم التالي إلا وعادت للعمل كأن شيئا لم يحدث، وهي تبرر ذلك مكررة على مسامع من حولها: حين بدأنا هذا العمل، لم نحصل على وعود بأن كل شيء سيكون ورديا، كما أن الشمس تشرق دائما بعد المطر.

رغم جهدها الدؤوب هذا، فهي تؤكد أنها لو كانت حصلت على قسط أفضل من التعليم، لتمكنت من مساعدة الناس حولها بشكل أفضل، وهو أمر يصعب تخيله، فهي تفعل أشياء تغيب عن الخيال، فهي سعت حتى حصلت على دعم حكومي لإقامة مصنع مياه شرب صحية، لإغناء الناس حولها عن الشرب من آبار مياه نالت منها السموم والأمراض. حتى المرضى العاجزون عن الخروج من منازلهم، سعت ايولا لجمع تبرعات لضمان توصيل وجبات طعام لهم في بيوتهم، ولتوفير وجبات طعام صحية للأطفال في المدارس.

اليوم تعاني ايولا من مرض في القلب ومن داء السكري وارتفاع الضغط غيره، ونال منها السن، إلا عقلها فهو متقد بالذكاء يعمل بكل قوته لمساعدة الغير. لا يتوقف الناس عن قصد ايولا طلبا للمساعدة، وهي تحرص على ألا تغلق العيادة أبواها عن قاصديها، وهي لا تنوي التقاعد أبدا، ومر عليها زمن طويل دون أن تحصل على إجازة، ولا ترتاح إلا حين تعرف أن المحتاج قد حصل على بغيته.

في عام 2006، تحول اسم الطريق العام الذي يمر بجانب العيادة ليكون اسمه طريق ايولا هال السريع، امتنانا للمجهودات الكثيرة التي قدمتها.

الشمس تشرق دائما بعد المطر.

17 ردود
  1. ابوالقاسم ابراهيم المحسي
    ابوالقاسم ابراهيم المحسي says:

    لو اعيش زول ليهو قيمة …اسعد الناس بوجودي
    زي نضارة غصن طيب….كل يوم يخضر عودي
    وابقي زولا ليهو قيمة …
    قيمة الانسان تزداد حينما يكون خيره للناس واصل وبلا كلل ولا ملل
    ومن استحضر الاجر والثواب من الله تعالي لايفتر ويياس من روح الله ودمتم صالحين

    رد
    • محمد صلاح
      محمد صلاح says:

      جزاك الله خير استاذ شبايك
      شكرا ع الابيات الجميلة يا المحسي وتحية لاهل المحس وكل السودانيين

      رد
  2. د محسن النادي
    د محسن النادي says:

    فعلا تحتاج الحياة الى مثلها من اجل اثبات ان المستحيل يكون فقط في عقل العاجز
    كم احوجنا في وطننا الى امثالها بل المئات من امثالها
    الشمس تشرق بعد المطر
    ولن نلعن الظلام
    بل
    لنوقد شمعه ولو صغيره
    ودمتم سالمين

    رد
  3. محمد
    محمد says:

    يارك الله فيك أخي شيايك
    تدوينة في أول أيام في أول ايام شهر الرحمة بالمغرب، شهر رمضان الكريم ، أتوجه لك أخي رؤوف و إلى كل زوار المدونة بالتهنئة بهذه المناسبة الجليلة العظيمة ، ونسأل الله أن يعيده على أمتنا العربية والاسلامية باليمن والخير والبركات . كل عام وانتم بخير ، والى اللة تعالى أقرب .

    رد
  4. حازم سويلم
    حازم سويلم says:

    أكثر ما يروقنى فى قصص, كقصة “ايولا هال” هنا هو الاصرار والعزيمة الجبارة التى لا تكل, وهذا ما افتقده حتى الان.. تحياتى يا رءوف

    رد
  5. عبد الرحمان
    عبد الرحمان says:

    برغم فقرها ونقص تعلمها استطاعت ان تحقق ما لم يستطيع تحقيقه الملايين من المتعلمين واصحاب الاموال

    رد
  6. ابوالقاسم ابراهيم المحسي
    ابوالقاسم ابراهيم المحسي says:

    الشمس دائما تشرق بعد المطر…*ان بعد العسر يسرا ان بعد العسر
    يسرا*عدت استاذي شبايك والعود احمد. واشتقنا لجديدك ونحن
    بخطي ثابة سائرون استفدت من المدونات الصديقة كمدونة محمدبدوي
    اشكرك استاذي العزيز وارجوا من الله ان يوفقك دائما.وما زال الدعم
    لمشرعي الصغير جاريا من اجل ترك العبوديةوامتلاك السلم الوظيفي
    كاملا بدل تسلقه انشاء الله.

    رمضان كريم تقبل الله منك الصيام والقيام….ودمتم صالحين

    رد
  7. عبد القادر
    عبد القادر says:

    كم نحتاج في هذه الايام الى هكذا نموذج في الوطن العربي
    فالاوضاع الاقتصادية الصعبة اثقلت كاهل الناس و اتعبتهم
    لو ان في كل بلد تنشأ مثل هذه المبادرات لكانت اوضاع الناس افضل بكثير
    نعم يوجد مبادرات و لكن بشكل محدود و قليل

    هذه القصة تثبت اهمية العمل التطوعي و الجماعي في المجتمعات و الذي للاسف لا يزال نادرا نسبيا في المجتمعات العربية

    جزاك الله خيرا اخي رؤوف … رمضان كريم

    رد
  8. عبدالسلام المودن
    عبدالسلام المودن says:

    لماذا نعتبر بأن هذه المقال قصة و في نفوسنا نظن بأنها وهم ومجرد قصة خياليا و نضع ردود تنم عن العجز نحتاج نريد فالسيدة “ايولا هال” لم تقل هذا الشيئ وهي التي توفي أبنائها أمامها في الواقع يجب أن نقدم نحن على التغير و لا ندع للتسويف والتمني المبني على التسويف طريق أو ثغرة ينفذ منها علينا بالثقة في أنفسنا وكفانا إتكالا على الناس لنجعل أمثالنا يتكل علينا فلابد من قائد اذا لما لا نكون نحن هذا القائد وفقكم الله لكل مافيه خير

    شكرا أخي شبايك

    رد
  9. محمد السعيد
    محمد السعيد says:

    قصة رائعة 🙂
    أعتقد أن هناك في عالمنا العربي بعض النماذج المشابهة مثل جمعية رسالة في مصر .

    رد
  10. عبد الله
    عبد الله says:

    – في حياتنا جميعا، نوازل ومصائب جسام، تطحن الهمم وتطيح بالقامات، ولله في خلقه شئون.
    – حين بدأنا هذا العمل،(لم نحصل على وعود بأن كل شيء سيكون ورديا، كما أن الشمس تشرق دائما بعد المطر)

    شكرا جزيلا.لقد إرتسمت على وجهي إبتسامة…فهناك دائما فرصة…ودائما ما يبقى الأمل بالله قائما… و عل شمسنا تشرق من جديد بعد هذا المطر.

    رمضان كريم أستاذ رؤوف:)

    رد
  11. لؤلؤة انجمينا
    لؤلؤة انجمينا says:

    قصة قوية كقوة صاحبتها وهمتها العالية على الرغم من معترك الحياة وكل ما واجهها
    لم تضع الظرف بطريقها مهمن كانت عقبتها
    انجزت بقدر ما استطاعت فهي الافضل من غيرها.
    كل عام وانت بخير اخ رؤف وقصة تستحق القراءة والاستفادة فعليا منها.
    احترامي لك .

    رد

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *