قاهر الاحتكار – هيربرت داو

,

هل تستطيع شركة صغيرة أن تواجه حرب أسعار شرسة من محتكر السوق وتنجح؟

أمر صعب لكن ليس بمستحيل، والدليل قصة الأمريكي هيربرت داو مؤسس شركة كيماويات داو.

في البداية يجب الحديث عن طفولة هيربرت والتي شكلها والده الميكانيكي ذو العقل المتفتح، الذي شارك أفكاره المتطورة مع ابنه على طاولة الطعام، وشاركه الأدوات والعدد في ورشة المنزل، حيث علمه كيف يعيد تجميع توربين وكيف يفك الآلات، والأهم، كيف يفكر في الطرق الممكنة لتحسين كل ما هو قائم بالفعل.

درس هيربرت الكيمياء وتخرج من جامعتها، وحدث ذات يوم أن راقب عمال يحفرون بئر بترول، ولما اقترب منهم طلب منه أحدهم أن يتذوق سائل يخرج في بداية حفر البئر يسمونه Brine فوجده مالح الطعم، فعاجله العامل، هل تعرف سر طعمه السيئ؟ رد عليه هيربرت: لا، لكني أود معرفة السبب.

أخذ هيربرت عينة من السائل إلى معمله وهناك حيث حلله ليجده مكونا من ليثيوم (وهو ما فسر الطعم القميء) + برومين.

مادة البرومين (أو البروم بالعربية) كانت تستخدم وقتها في إنتاج بعض مواد في التخدير وفي تحميض الأفلام الفوتوغرافية المخترعة حديثا وقتها، وكان عليها طلب لا بأس به.

تخرج هيربرت وعمل كأستاذ كيمياء، وظلت هذه الحادثة في ذهنه: كيف يمكنه استخراج البرومين بطريقة قليلة التكلفة، واستمر في البحث لمدة 15 عاما، أسس فيها 3 شركات، الأولى أفلست والثانية استولى عليها الشركاء والثالثة، كيماويات داو، كانت تجاهد لتتفادى الإفلاس.

كانت أحواله المالية متعثرة، ولذا استخدم أرخص الأدوات في بناء مصنع شركته الثالثة، حتى أطلقوا عليه لقب داو المجنون، ذلك أنه بنى مصنعه من خشب الأشجار مستخدما أقل عدد مكن من المسامير لتمسك هذه الأخشاب معا. كان يعمل في المصنع 18 ساعة ويبيت فيه بحثا عن وسيلة لاستخراج البرومين بطريقة رخيصة أقل من الطرق السائدة في السوق.

الاحتكار على الطريقة الألمانية

في هذا الوقت، اتحدت 30 شركة ألمانية معا لتأسيس كارتل (تكتل احتكاري) لبيع مادة البرومين بسعر 49 سنت لكل باوند في السوق الأوروبية.

صاحبنا هيربرت تمكن بعد محاولاته الكثيرة من استخراج البرومين بتكلفة متدنية نسبيا، مما سمح له ببيع البرومين بسعر 36 سنت للباوند وتحقيق ربح لا بأس به في السوق الأمريكية التي كان الطلب فيها متواضعا نسبيا، لكنه كان بحاجة للإنتاج على نطاق عريض ليحقق أرباحا كافية تخرج بشركته من عثراتها، وكان الحل أمامه هو أن يبدأ بيع البرومين في أوروبا. حين علم رجال الكارتل بذلك، ذهبوا ليزورا هيربرت في مكتبه.

ملخص الحديث كان إما أن يترك السوق الأوروبية ويتوقف عن البيع فيها، وإلا فسيقوم الكارتل الألماني بتدميره في السوق الأمريكية.

لم يستجب هيربرت لتهديداتهم ولذا قرر الكارتيل بيع البرومين في أمريكا مقابل 15 سنت للباوند، بهدف ألا يشتري أحد من هيربرت وبالتالي يخسر ويغلق شركته ثم يعودوا لرفع سعرهم كما كان.

الطريقة الأمريكية لكسر الاحتكار

بالطبع وكما هو متوقع، توقف السوق الأمريكي عن الشراء من هيربرت وتحول لشراء الرخيص الألماني، الأمر الذي كان يمثل الخطر المحدق بشركته، فالتهديد جدي وعليه اتخاذ قرار سريع وإلا سيخسر كل شيء.

بعد تفكير طويل في رحلة بالقطار، تفتق ذهنه عن فكرة عبقرية، إذ اتفق مع وكيل أعمال له في نيويورك أن يقوم بشراء جميع المعروض من مادة البرومين لصالح هيربرت في السر ودون أن يعلم أحد، ثم أعاد تعليبها وتغليفها ووضع عليها اسم شركته، ليعيد تصديرها لأوروبا، وهناك حيث باعها بسعر 27 سنت، وبدلا من كساد بضاعته في أمريكا، شحنها بدورها إلى أوروبا، حيث بقي السعر هناك ثابتا.

لمزيد من الحبكة، وظف هيربرت موظفين له في السر في بريطانيا وألمانيا ليقوموا ببيع منتجاته من البرومين الألماني الأصل حتى لا يكشف خطته أحد، التي سارت على خير ما يرام لها.

بمرور الوقت بدأ الكارتل يلاحظ تراجع في مبيعاته في أوروبا، وزيادة كبيرة في الطلب في أمريكا، والأهم، بقيت شركة كيماويات داو في العمل والإنتاج ولم تغلق أبوابها!

في خطوة أخيرة، قرر الكارتل خفض سعر البرومين في أمريكا إلى 12 سنت ثم 10.5، في محاولة يائسة لتدمير هيربرت. الطريف أن الكارتل لم يدر في خلده أن هيربرت كان وراء هذه الخدعة، واكتفوا بالشك في أن بعض أعضاء الكارتل خانوهم وبدؤوا يبيعون بالرخيص!

استمرت هذه الحرب لمدة 4 سنوات، حتى أعلن الكارتل الألماني استسلامه وطلب من داو الجلوس على طاولة المفاوضات، حيث اتفق الجانبان على أن يترك كل منهما بلد الآخر، فلا هيربرت يبيع في ألمانيا، ولا الكارتل يبيع في أمريكا، وهو ما كان.

ما حدث بعدها أن هيربرت خرج من هذه الحرب غنيا، الأمر الذي مكنه من الدخول في مجال انتاج مواد أخرى مثل الصبغات، واستطاع منافسة الكارتل الألماني فيها، حتى جاءت الحرب العالمية الأولى وقرر الألمان حرمان الأمريكان من منتجاتهم، فتبرع هيربرت سعيدا لسد هذا الفراغ، وملء جيوبه.

هذه القصة أصبحت مضرب المثل في قدرة الطرف الضعيف على مواجهة بطش الاحتكار وحرب الأسعار القذرة.

حين تدخل في حرب أسعار غير عادلة، استعن بهذه القصة، لعلها تعينك. الآن، هل لديك قصص مماثلة تغلب فيها الطرف الأضعف على الطرف الأقوى؟

18 ردود
  1. أحمد سعد
    أحمد سعد says:

    جزيت خيرا أخ رؤوف .. مقال مفيد

    هذا الأمر الذي فعله “هيربرت داو” في التغلب على الإحتكار ..

    نوع من أنواع التفكير خارج الصندوق ..

    رد
  2. محمد أبوتجار
    محمد أبوتجار says:

    كان لى صديق يمتلك محل بقالة و لاحظ أن أحد منافسية الجدد يبيع الجبن التركى بثمن زهيد فطلب من أحد الأطفال أن يذهب بإستمرار لشراء الجبن من المنافس بأموال صديقى حتى لم يعد فى النهاية أرباح كافية و زبائن تخدم المحل للمنافس و أغلق فى النهاية

    رد
  3. حازم سويلم
    حازم سويلم says:

    فى الحرب، تعرف هذه السياسة “بالردع الغير متماثل” حيث يستفيد الأضعف من كونه خفيف وسريع وأكثر مرونة، من الطرف الأقوى. ويبدو انها موجودة فى الاقتصاد كذلك..

    رد
  4. د محسن النادي
    د محسن النادي says:

    ذكترتني بحرب اللحمة القائمه حاليا بين التجار
    حيث يبيع احد المحال الكيلو بفارق كبير عن باقي المحلات
    ولكي يكتشفو امره وسرّه قامو بتوظيف كل ما لديهم من طاقه
    ليتبين انه يبيع لحم البقر الكبير بدلا عن العجول
    ولحم اناث الخراب بدل الذكور
    وهذا سرّ رخص الاسعار لديه
    وعندما فضحو امره كسدت تجارته

    في حرب المنافسه تكون الغلبه لمن يستطيع ان يحفظ سرّه

    و 4 سنوات من هذه الحرب بين القوي والضعيف ادت في النهاية الى فوز الاقدر على حفظ السرّ

    ودمتم سالمين

    رد
  5. brzan
    brzan says:

    بصراحة قصة رائعة لأن الاحتكار اليوم بات أشبه بشبح يحطم صغار التجار والمبتدئين …قصة رائعة ونتمنى المزيد من الافكار لمواجهة المحتكرين الأنانيين!

    رد
  6. زائر
    زائر says:

    أكبر تحدي يواجه المبتدئين في ريادة الأعمال المنافسين الكبار الشرسين

    رد
  7. مصطفى سلاوي
    مصطفى سلاوي says:

    اهلا وسهلا تحية خالصة للاخ رؤوف على العمل المتواصل.
    هو من الصعب ان ينجح اي احد عندما يقع بين ايدي كبار وعمالقة السوق المحلي او الحلمي ولعل هيربرت كان ذكي للغاية واستغل امور عديدة لكي يفلت من جبروت هذه الشركات بحيل بسيطة ولكنها متميزة ومن الصعب على اي احد ان يفكر على هذا النحو افادة كبيرة من هذه القصة اشكرك
    حظ موفق

    رد
  8. رامى أحمد
    رامى أحمد says:

    فكرة جميلة فعلا .. لكن ماذا لو كان المنافس ليس محتكرا لكن يبيع بسعر أقل لإعتماده على موارد ضعيفة الجودة بالرغم أن منتجى ذو جودة أعلى منه .. ما الحل فى هذه الحالة ؟

    رد
    • أحمد سعد
      أحمد سعد says:

      ” طلبك عندي ”
      الحل هنا يختلف حسب نوع التجارة التي تعمل بها أو الخدمة التي تقدمها ، و لكن بصفة عامة يمكنك العمل على هذة المحاور الثلاثة ..

      * تقديم خدمة أفضل للعملاء :
      توصيل مجاني – ضمان أكبر على المنتج – رقم مجاني للرد على العملاء – تحسين خدمات ما بعد البيع من صيانة و خلافه .

      * تسويق أفضل لمنتجك :
      محاولة إستهداف شريحة أكبر من العملاء لا يستطيع منافسك الوصول اليها
      – اللجوء إلى التسويق الإلكتروني – خدمة العملاء في أماكن تواجدهم و ليس من خلال مقر شركتك .

      * تطوير المعرفة :
      زيارة المعارض التي هي في مجال تخصصك و الحصول على أفكار المنتجات و الخدمات الجديدة ، و تحديث منتجاتك بشكل مستمر بشكل يصعب على المنافسين مجاراتها و يصعب على العملاء مقارنة البضائع بعضها ببعض ” تحقيق الإنفراد ” .

      رد
  9. فهد المطيري
    فهد المطيري says:

    المشكله كانت لو قام التجار بتخفيض الاسعار في المانيا واوربا ! لما وجد الحل لمواجهة بطشهم به

    رد
  10. سعد
    سعد says:

    أعلم ان الموضوع قديم لكن من فترة بسيطه عرفت عن مدونة شبايك وأشكر الاخ رءوف شبايك لمساهمتة في توعية الشباب العربي والارتقاء بفكرهم (له مني دعوة بظهر الغيب – جزاك الله خير)
    وكل الكتاب المحترمين على التعليق المثمر والبناء على مواضيع المدونة

    عندي قصة حدثت في السعودية قبل ثلاثين سنه تقريبا

    قرر كبار تجار الألبان في السعودية (شركة المراعي – وشركة الصافي) وهي مملوكة لعلية القوم
    على اخراج كل شركات الألبان من السوق. ماذا عملوا؟

    بدأت شركة المراعي على عمل مسابقة في كل علبة لبن هناك نصف صورة هدية أكمل الصورة وأحصل على هديتك. كيف تكمل الصورة وذلك بشراء علبة لبن أخرى لعل وعسى تجد النصف الآخر. والجوائز مجزية من ضمنها سيارات, وقد فاز بها ناس كثر
    ما الذي حدث؟
    جميع الناس اندفعوا لشراء لبن المراعي وترك الألبان الأخرى (كما تعلمون الألبان تاريخ صلاحيتها فترة قليلة كم يوم فقط)
    هنا ماذا فعلت شركة الصافي بدأت حرب أسعار مع شركة المراعي وخفضت من سعر لبن الصافي
    وكم يوم فعلت شركة المراعي نفس الشيء وخفضت الاسعار
    واستمر هذا المنوال تقريبا شهرين حتى لا تجد في السوق إلا لبن المراعي والصافي
    أذكر أن جميع الناس كانوا مبسوطين من تنزيل الاسعار وخفظها والمنافسة من قبل هاتان الشركتان
    (الظاهر هي حرب أسعار بين الشركتين أما الباطن فهو خراب واغلاق كل شركات الألبان في السعودية )
    بعد أن خلاء السوق الا من الشركتين بدأوا برفع الاسعار تدريجيا

    الشركات التي أغلقت ( ألبان الري – ألبان الطائف …………..وغيرها هذا الذي يحضرني)
    رجعت هذه الالبان للسوق منذ حوالي عشر سنوات تقريبا

    رد

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *