والي اموس، النهوض من الحطام

مثله مثل كثيرين من السود في أمريكا، جاء والي اموس Wally Amos إلى الحياة ليجد أمه خادمة منزلية، لا تعرف من التربية سوى صرامة تنفيذ القواعد، وأملها في أن يكون ابنها ناجحا يوم يكبر. في حقبة الثلاثينات التي شهدت مولده، عانى السود من التفرقة العنصرية والتمييز العرقي ضد بني بشرته، ولم يكد يكبر قليلا ويبلغ 12 عاما حتى انفصل أبويه بالطلاق وحل هو ضيفا على قريبته ديلا في مدينة نيويورك.



في كل مصيبة بذور حكمة تعطي ثمارها بعد وقت طويل، فمن قريبته تلك تعلم والي طريقة خبز قطع الحلوى الدائرية المطعمة بقطع صغيرة من الشيكولاته، وهو الأمر غير المعتاد في ذاك الوقت، وبعدها بدأ يضيف على هذه الوصفة ويطورها وجعلها أفضل وأطيب. هذا التعلم دفعه للانخراط في مدرسة ثانوية تعلم فنون الطهي، لكنه لم يكمل دراسته وتطوع في سلاح الجو الأمريكي، وبعد قضاء أربع سنوات هناك، رحل مع شهادة تقدير.

بعدها رجع إلى مدينة نيويورك، وانتظم في دراسة السكرتارية في كلية هناك حتى تخرج، ليقبل وظيفة بدوام جزئي في محل ساكس افنيو. رغم أنف كل المديرين الذين عملنا معهم، وجد والي مديرا طيبا تحول ليكون معلمه وأستاذه في فنون الحياة، عمل على تشجيع الشاب اليافع، وساعده للنجاح في حياته، وناقشه طويلا وكثيرا في مقالات الأعمال المنشورة في الجرائد المختصة، وأما حين ترقى هذا المدير، ترك توصية قوية لكي يحل والي محله رغم وجود من هم أقدم منه، لكنه رأى أنه أكثر كفاءة ومهارة منهم، وهو ما كان. هذه التوصية دفعت والي للعمل بأقصى طاقته، الأمر الذي عاد عليه بوظيفة بدوام كامل لا جزئي.

بعدها بفترة انتقل والي للعمل في شركة تبحث عن المهارات الغنائية الواعدة، وهناك حيث لمع نجم والي حين اكتشف العديد من نجوم الغناء الأمريكيين السود، لكن الطريف – والجدير بالذكر – هو أن والي كان يتبع أسلوبا تسويقيا غير مسبوق في وقته، كان يرسل لمن يتوسم فيهم الخير من العملاء المحتملين دعوة للحضور للقائه، ومع الدعوة قطعة حلوى الشيكولاته من صنع يده، وفي الأغلب كانت حلاوة الطعم هي سر قبول هؤلاء العملاء للحضور للقائه، ربما طمعا في قطعة ثانية ،أو ربما ترتيب وسيلة إمداد مستمرة من هذه الحلوى الشهية!

بعد مرور ستة أعوام ونصف عليه في هذه الشركة، اصطدم والي بواقع التمييز العنصري مرة أخرى السائد في الستينات من القرن الماضي، إذ لم يكن أحد مستعدا وقتها لترقية أسود لمنصب مدير قسم، الأمر الذي دفعه للاستقالة واستغلال مهاراته في التسويق للمغنين والمطربين الناشئين، في التسويق لحلوى الشيكولاته التي برع في خبزها بشكل أسال لعاب الكثيرين، خاصة بعدما نصحه صديق له بذلك.

بمساهمات من أصدقاء له وعملاء سابقين، اقترض والي 25 ألف دولار، وافتتح في عام 1975 متجرا أسماه والي الشهير أو Famous Amos لبيع حلواه في مدينة هوليود الشهيرة في ولاية كاليفورنيا. فوق أنه أسود، لم تكن قطع الحلوى المطعمة بقطع الشيكولاته شيئا معتادا، لكنه قرر المخاطرة ومضى في طريقه، ومن نجاح لآخر تمكن من افتتاح فرعين إضافيين بعد شهور من افتتاح فرعه الأول، حتى جاء عام 1987 ولديه 35 فرعا لبيع حلواه، وكان يحقق 12 مليون دولار مبيعات سنوية.

لكنه كذلك لم يتقن فنون الإدارة، فباعترافه شخصيا، لم يكن يدرك قوة فريق العمل، وكان منعزلا عن فريق إدارة فروعه، وكان مغرورا بنجاحه فظن أنه يعرف كل الأجوبة لكل الأسئلة، وهذا الغرور هو ما دمره، وبدأ يحقق خسائر عميقة أجبرته في 1988 على بيع كل أصول شركته التي بناها/خبزها بيديه، مع شرط تعاقدي على ألا يعمل في مجال الحلوى وألا يستخدم اسمه في الترويج لأي منتج من منتجات الحلوى!

رغم ذلك حاول والي في عام 1991 تأسيس شركة حلويات تحمل اسمه، لكن القضية التي رفعتها الشركة التي باع لها حقوق استغلال اسمه انتهت لصالح تلك الشركة، ولذا غير والي الاسم إلى شركة حلويات العم بلااسم أو The Uncle Noname’s Cookie Company ومرة أخرى حاول التسويق لشركته الناشئة الجديدة. مرت الأيام، حتى حل والي في عام 1994 ضيفا في برنامج إذاعي، وحملت موجات الراديو كلماته إلى أحد الموزعين الذين سبق له أن تعامل مع والي وحلوياته في الماضي الجميل، وكان والي يتحدث عن النجاح وصعوباته ووجوب مطاردته حتى يتحقق، وعن ضرورة تحدي الصعاب مهما كانت.

تفاعل المستمع مع المتحدث، وقرر مشاركته لتوسيع شركته وتكبيرها تحت ذات اللااسم لكن في مجال حلويات المافن Muffin، وبمرور السنوات أصبحت الشركة من ضمن أكبر شركات حلوى المافن الأمريكية، وحين اشترت شركة أخرى تلك الشركة التي اشترت حق استغلال اسمه التجاري، توصل والي إلى صفقة سمحت له بأن يعود ليكون المتحدث باسم تلك الشركة، مستردا لاسمه واسم شركته الأولى التي بناها.

الشاهد من القصة، هو أن كل مصيبة تحدث لأي منا، تحمل في طياتها رحمة مدفونة تنتظر من يكشف عنها، فانفصال والديه جعله يتعلم وصفة سرية لخبز حلوى شيكولاته جديدة، وخسارته لشركته الأولى ولحق استغلال اسمه علمه ألا يكرر أخطاء الماضي في شركته الثانية.

كذلك، ليس معنى أن جعلك الله مديرا على طائفة من الناس، أن تجعل ذلك فرصة لإثبات غبائهم ولتحطيم معنوياتهم، فهذا المدير الذي تحول ليكون معلما لوالي، عرفه كذلك على مجموعات من المتطوعين تحارب الجهل وتسعى لتعليم الأميين في أمريكا، وهو ما استمر فيه والي بقوة وحتى شيخوخته، الأمر الذي عاد على الكثيرين بالفائدة، وعليه هو شخصيا، خاصة حين قرأ مقولة تقول: التطوع هو أن تمد يدك إلى يد في الظلام لتعود بها إلى النور، لتكتشف أنها يدك أنت.

على الجانب:
* قبل أن يسأل أجيبه، ميزة قصص النجاح غير العربية هي أن العربي يقبلها بسهولة ويسر، دون مناقشات سفسطية بعيدة عن الهدف والمغزى من سردي لأي قصة نجاح. ليس الأمر ترويجا لِـجنة الغرب، بل لـِجنة الحرية الاقتصادية والاعتماد على النفس لا على الراتب.
* سأل سائل عبر تويتر، بما معناه أن أسلوب صياغة قصة النجاح يطغى أحيانا على قيمة القصة، فإذا كانت لا تستحق الإشادة، دفعتنا طلاوة الأسلوب للإعجاب بها. الإجابة ببساطة أن الكاتب مثل طاهي الطعام، يحاول إرضاء أذواق كثيرة، لكن دون جدوى. أي قصة نجاح أكتبها، سواء كان النجاح سريعا أو بطيئا، عربيا أو غربيا، سيجد كل قارئ في ثناياها ما يفيده هو شخصيا، وأما من لم يجد في الورد سوى الشوك، أو في الصحراء سوى النبتة الصغيرة التي حملت الوردة، فهو ما لا أملك معه شيئا، وإن كنت أدفع القارئ ليكون ممن يرون الورود ولو في الصحراء.

17 ردود
  1. وليد
    وليد says:

    كالعادة رؤوف جهد راقى يستحق كل تقدير…
    ما استفدته فى هذه المدونة شيئين مهمين
    1- النجاح لا يعنى انك تستطيع ادارة كل الامور كل الوقت بمفردك- ذكرنى هذا بقصة ذكرتها انت قبل ذلك لذلك الرجل الامريكى صاحب مشروع تصوير الاوراق الذى بعد ان حقق نجاحا كبيرا استعان بأستاذ من هارفارد لادارة الامور.
    2- حسن معاملة فريق العمل
    لك التحية ودعواتى لك بالتوفيق…

    رد
  2. dr niaz niazi
    dr niaz niazi says:

    قبل شهرين حدثت حادثه معنا غيرت مسار العمل بشكل جذري
    ليس كل مصيبه نصاب بها
    يمكن ان تكسرنا
    بالعكس هي تقوينا
    شكرا اخ رءوف على هذا الطرح المميز

    رد
  3. أكرم عثمان
    أكرم عثمان says:

    قصه مفيده جدا و اهم درس فيها هو ان يستفيد المدير و الموضف من عقول بعضهم البعض دون غرور و ان يكون الهدف هو نجاح الشركه وليس الشخص فقط بل الشركه و جميع من فيها

    رد
  4. باسم
    باسم says:

    قصة فيها الكثير من الشبه بقصو جوبز و كثير من الناجحين، عثرات اليوم قد تكون هي أسباب نجاح الغد، جتى أن أكبر أخطائي الماضية رأيتني بعد سنوات أجني منه خيرا..
    شكرا على القصة وصياغتها أخي رؤوف، بوركت

    رد
  5. حسن قسام
    حسن قسام says:

    لي طلب عند الاستاذ شبايك ان يذكر لنا طرقا للحصول على تمويل للمشاريع او قصص من قاموا باقناع الاخرين بتمويل مشاريعهم ؟وشكرا

    رد
  6. مولاي عبد الله
    مولاي عبد الله says:

    قصة وجدت فيها فائدة.وأسلوبك يجعلها أروع.ولاضير في ذلك…
    يبدو أن دافع الرجل كان كبيرا لدرجة أنه تجرأ على إفتتاح شركة أخرى بعد أن باع حقوق إستغلال إسمه تجاريا.
    في الحقيقة في بعض المرات قد يمنعنا الهدف الذي نسمو إليه من رؤية العواقب الوخيمة التي قد تصيبنا جراء السعي لتحقيقه.إذا لا إفراط ولا تفريط في طلب النجاح 🙂
    رغم أنف كل المديريين الذين يعمل المرأ معهم فإنه دائما ما يوجد مدراء طيبون.يعطون صورة معاكسة تماما للمدير المتسلط.ما رأيك أستاذ رؤوف؟

    رد
  7. M.Basel
    M.Basel says:

    مشكور
    نقطة صغيرة فقط استاذ رؤوف اذا ممكن تنشر المقالة عن طريق facebook وليس twitter لكي أتمكن من مشاركتها للأصدقاء
    ( جميع مشاركات تويتر لا تتيح لي مشاركة لا أعلم لماذا !؟!!؟)

    رد
  8. وسيم
    وسيم says:

    قصة رائعة جداً , في هذا العالم الاعتراف بالخطأ هو من أهم أسباب النجاح لأنه يدفعك إلى التوقف عن ارتكاب المزيد من الأخطاء ويعلمك شيئاً جديداً يجب أن لا تقوم به في المستقبل.

    شكرا رؤوف

    رد
  9. hakim
    hakim says:

    طبعا من المواضيع والقصص المفيدة كعادتك ا شبايك انا استفدت
    1-عدم الاهتمام بسلبيات الماضي وعدم الاكتلراث غير بما تعلمته منه
    2-الاصرار رغم الفشل او السقوط وعدم الانهيار بل المحاولة تلو المحاولة حتى النجاح باذن الله
    3-التعويل على الغير في الموقع الذي لا اجيد ادارته حتى لو براتب كبير طالما انه سوف يغطي نقص في مشروعي وبالتالي العائد والنججاح باذن الله
    وشكرا وبالتوفيق دائما

    رد

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *