على جزيرة اسمها تايوان

في الأسبوع الثاني من شهر أكتوبر 08، حملتني الطائرة إلى العاصمة التايوانية تايبيه، لغرض عمل تغطية إعلامية لمعرض تايترونيكس الذي يضم كوكبة من الشركات التايوانية العاملة في مجال الإلكترونيات وتقنية التعرف بموجات الراديو والحزمة العريضة والتقنية الكهروضوئية. لم تكن هذا الرحلة أبدأ في الحسبان، وسبحان من يسرها لي، حتى يتسنى لي الوقوف على أسد آسيوي يشحذ كل طاقاته لينطلق بأقصى قوة.

لم أتخيل نفسي يوما أقف لأصفق لرئيس دولة، لكن الرئيس مَا – كما يسميه أهل تايوان – أجبرني على ذلك في فعاليات افتتاح المعرض، فالرجل تجده جذوة من نار الحماسة والنشاط، تؤازره شخصية كاريزمية تجعلك تسمع له إذا تكلم، وتصدقه إذا تحدث. للرئيس رجاجة في العقل، إذ بدأ حديثه إلى مؤتمر الاستثمار المعقود لدعوة المستثمرين للثقة بحكومة وشعب تايوان، عبر التأكيد على نية صادقة في تحسين العلاقات بين تايوان والصين، وتخفيض القيود الحكومية، وخفض الضرائب. لمست حبا في عيون من قابلتهم من أهل تايوان للرئيس ما، ولعل ذلك مرده أنهم كان لهم يد في انتخابه، فما أن يدخل القاعة حتى يقف الجميع، وما أن يأتي ذكره حتى تتسع العيون.

ليس مطار العاصمة تايبيه بالحديث العصري، إذ يحمل بعضا من آثار الزمن، على أنه ينقسم إلى صالتين: الأولى قديمة والثانية حديثة، ولعله كان القدر لكني لمست رقة في المعاملة من موظف الجوازات والذي أصر على نطق اسمي كاملا وشكري، ولأن جو الجزيرة ممطر معظم الوقت، لذا تغطيها ملاءة خضراء من الزروع والشجر، في منظر يقدره ويجله من اعتاد رؤية الصحاري والبطحاء. من وقت لآخر، يصيب الجزيرة الأعاصير، ولهذا تجدهم يربطون مظلات المطر بأكياس الرمل، والأشجار يثبتونها بأربعة من العكازات، حتى لا تطير!

تركب سيارة الليموزين ذاهبا إلى الفندق، فتلاحظ قلة في الالتزام بقواعد المرور، لكنها رغم ذلك أفضل من أفضل نظام مروري في بلادنا. ما أن تدخل على العاصمة تايبيه، حتى تكتشف أن نصف أهلها (أو أكثر) يركبون الدراجات البخارية، حتى أني أحصيت أكثر من مائتي دراجة اصطفت في تقاطع شارع كبير مزدحم في المساء، ولا تظن هذا الرقم مبالغة، بل أقل من الواقع، حتى تحت زخات المطر، إذ تجد سائقي تلك الدراجات قد أخرجوا معاطفهم واستمروا في القيادة بدون مشاكل.

 النظام المروري مختلف جدا في تايبيه، فهناك قسم مخصص لوقوف الدراجات البخارية، وهناك شوارع تمضي حاراتها كلها في اتجاه واحد عدا حارة واحدة في الاتجاه المخالف تسير فيها الحافلات، وهذا يجعل ركوب الحافلة حلا عمليا لتفادي الزحام الكثير في شوارع تايبيه، خاصة مع أعمال الحفر والإنشاء لمشاريع امتداد خطوط مترو الأنفاق. السيارات التي تطوف الشوارع هي طرازات خاصة من أشهر السيارات اليابانية والأمريكية، وتتشح سيارات الأجرة باللون الأصفر، لكن حذاري من سائقيها، فهم لا يعرفون الانجليزية، وعليك بخريطة تريهم مقصدك عليها، وحتى هذه تدفعك للتعجب، فالسائق تجده يخرج عدسة مكبرة أو نظارة ليرى النقطة التي تشير إليها على الخريطة، وحتما ستتساءل: كيف يقود من لا يستطيع رؤية خريطة في يده! ولعل هذا يفسر سبب أن قادة سيارات الأجرة هل أقل الناس احتراما لقواعد المرور، رغم كاميرات الرادار التي تحاول أن تراقب النظام في الشوارع.

تجد أغلب مقالات السياح الذين زاروا تايبيه تتحدث عن رخص أثمان سيارات الأجرة، وما أن تركب حتى تجد العداد يشير إلى 70 دولار تايواني (1 دولار أمريكي يعادل 32 دولار تايواني) وتزيد بمعدل 5 دولارات بحسب المسافة والزمن، ولكن ما أن تتعدى حاجز 120 دولار، حتى تجد العداد وقد أصابته لوثة جعلته يجري مسرعا، ولذا لعله من الحكمة أن تستعمل سيارات الأجرة فقط في المسافات القصيرة، ولك في وسائل مواصلات تايبيه ما يغنيك عن غيرها. الجدير بالذكر أن سعر لتر البنزين يبدأ من 29 وحتى 32 دولار تايواني.

عندما تسير على الرصيف، ستلاحظ في الأغلب مسارين، واحد يمضي تحت المباني، والآخر في الهواء الطلق، وكنت أظنها أمورا عادية، حتى نبهني عجوز مسن – بلغة الإشارة – إلى أن الأول هو للمشاة، بينما الثاني هو للدراجات الهوائية والنارية. الطريف أن إشارات المرور للمشاة تعرض عداد ثواني متناقص للوقت المتبقي حتى تتغير وضعية الإشارة، أسفل منه رسما كرتونيا متحركا لرجل يسير، وعندما يقترب وقت تغيير الإشارة، تجد الشكل يجري مسرعا، في لمحة لطيفة.

روابط ذات صلة:
صور مبنى تايبيه 101 ( أطول مبني سابقا)
رحلة بوعلم إلى تايوان في 2006

تحديث:
وجدت عدة تعليقات تستغرب تعليقي على فكرة عداد الثواني في إشارة عبور المشاة وكيف أني لم أراه من قبل، وأنا لم أقصد هذه النقطة، ما قصدته الشكل المتحرك أسفل العداد، ويبدو أن علي قص الصورة وحذف شكل العداد لتوضيح فكرتي بشكل أفضل…

21 ردود
  1. أحمد درويش
    أحمد درويش says:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    الشيء الجميل الموجود في كتابتك هنا عن تايوان أو حتى في ماقلاتك السابقة عن هونغ كونغ هو اللمسة الشخصية في رواية التفاصيل الدقيقة وروح الفكاهة في الكتابة التي لا تخلو مقالة منها .

    والشيء الأطرف هو أني كنت أعد نفسية لكتابة تعليق على مقالة اكتب كتابك بنفسك وحدث انطقاع في الاتصال ، وعندما أعدت الاتصال ظهرت هذه المقالة الجديدة .

    رد
  2. asma
    asma says:

    على الرغم من اني آخدة فكرة سيئة عن تايوان وانها بلد مش متطور مرة لكن من اليوم راح تتغير الفكرة بالتأكيد!
    الاشارات اللي بتتكلم عنها منتشرة هنا في أغلب الأماكن خاصة الشوارع الرئيسية والمهمة.. استغربت انك أول مرة تشوفها 😀 معقولة في الرياض مافي!!
    هذا اعتبره من حق المشاة (على أساس انو في السعودية فيه مشاة يعني!) حتى انه في نفس عمود الاشارة بتلاقي زي كبير تضغط عليه يخلي الاشارة تحمر بعد كم ثانية عشان تاخد راحتك في المشي 🙂

    رد
  3. لازم أتفائل
    لازم أتفائل says:

    كيف حالك اخي العزيز شبايك

    بصراحة لم اعتد ان أقرا مقالات او مدونات عن المدن والرحلات
    ولكن من خلال مدونتك اريد ان اقرأ عن اي شيءطالما
    انها من ابداعات شبايك

    بالتوفيق في رحلتك

    رد
  4. هادي
    هادي says:

    سلامات
    أولاً حمداً لله على سلامتك
    ثانياً لقد اخذت انطباعاً عن تايوان بأنها بلد يحمل معظم انواع البضاعة رديئة الصنع
    فمثلاً اذا ذهبت لمحل بيع لقطع السيارات تراه يسألك هل تريد هذه القطعة بـ50$ او تريد هذه القطعة صنع تايوان بـ30$ وهنا لك ان تختار!!
    نرجو منك توضيح هذه النقطة
    فهل صناعات تايوان الى هذه الدرجة من السؤء
    ام ان التجار يستسهلون نسبة كل رديء بالصناعة لهذا البلد الآسيوي النامي
    او لنقل هذا النمر الآسيوي.

    رد
  5. شبايك
    شبايك says:

    أسماء
    أنا حاليا أعمل في دبي لا الرياض، وبالطبع شاهدت عدادات الوقت المتبقي في إشارات المرور، لكني لم أر من قبل مشهد الرجل المتحرك، ولذا كتبت هذه الملاحظة … فهل شاهدت مثل هذا الرسم المتحرك في بلد عربي؟

    هادي
    في النصف المكمل لهذه المقالة سأتحدث عن أن تايوان ثالث بلد في تسجيل براءات الاختراعات عالميا، ولذا فهي بلد متطور، وحتى البائعون في تايوان يتباهون بمنتجات بلدهم وينبهونك إلى أن هذه تايوانية وليست صينية الصنع، والتي يرونها (الصينية) ذات جودة أقل… عموما يا صديقي، من تعامل في التجارة مع دول جنوب شرق آسيا، سيعرف أنهم يبيعون كل شيء بمختلف درجات الجودة، فهم مستعدون لتسليمك سيارة كاملة بدولار، أو بمليون دولار، وأنت تختار ما تريد شرائه، ولذا في حالتك، حاول البائع تقديم خيارين لك وحاول خلق وحش اسمه تايوان ليدفعك لشراء الأغلى، لكن تايوان تصنع كذلك قطعا غالية الثمن ذات جودة متقدمة…

    رد
  6. عمّار توّك
    عمّار توّك says:

    الحمد لله على السلامة ،،، جميل لك أن ترى هذا التطور الهائل في تايوان ،، ولا أعلم أن لحقت على أحداث الشغب التي قد لحقت بها أم لا… لكن ما اعجبني هو نقلك لها بعيون عربية تجعلنا نفكر هل نحن نعيش في بلادنا بزمن التنكلوجيا المتقدمة ؟ يبدو الأمر كذلك …

    رد
  7. سعيد
    سعيد says:

    حمد الله على السلامة ويبدو ان اهل دبى لا يعرفون ان هناك امارات اخرى فى الدولة في امارة عجمان مثلا تجد عند اشارات المرور الرئيسية عداد على الاشار يظهر لك كم ستنتظر او كم ستفتفح الاشارة وهو بالفعل تقليد جيد احسن من انذار الاشارة الثلاثى الموجود فى دبى وفى امارة الشارقة وهذا نسبيا حديث وهو الاشارة الدالة للمشاه هى عبارة عن صورة متحركة
    عموما اتمنى لك من قلبى التوفيق والتقدم ويمكن تكون معرفة خير

    رد
  8. محمد بدوي
    محمد بدوي says:

    حمد لله على سلامتك و تغطية رائعة لاحد مقاصدي المستقبلية بإذن الله

    و على ما يبدوا من الصور أن اتجاه قائد المركبة كما لدينا في اليسار ,لأني أعتقدت أن كل شرق أسيا عكسنا

    رد
  9. azar.ghizlane
    azar.ghizlane says:

    بالعل استاذ رؤوف شبايك التيوان من القوى الكبرى في اسيا وهي قادمة بقوة
    لكن نتسائل دوما اين العرب في كل هذا وفي كل ما يجري حولهم

    رد
  10. شبايك
    شبايك says:

    محمد بدوي
    إذا فعلت فلا تخطط للمكث طويلا في تايبيه، واعمد إلى زيارة البلاد الساحلية، فلقد سمعت غزلا في وصف محاسنها من بعض من قابلتهم هناك ومما قرأته عن البلد…

    غزلان
    نحن العرب ورثنا تركة ثقيلة من المشاكل، وعلينا أن نحلها بأنفسنا – نحن لا حكامنا – حتى نلحق بهذه النمور المسرعة..

    رد
  11. Social Wonders
    Social Wonders says:

    جميل جدا أن يكتب كلا منا انطباعه عن كل بلد يزوره حتى نستفيد من تجارب بعضنا البعض

    شكرا لك شبايك… لعلي أزور تايوان قريبا

    رد
  12. ابو بسام
    ابو بسام says:

    اسلوبك الرائع فى سرد احدث الرحله , يذكرني بالرائع انيس منصور في كتاب 2000 يوم حول العالم

    رد
  13. محمد صالح
    محمد صالح says:

    شكرا اخ رؤوف
    تعتبر البضائع التيونية من البظائع الممتاز مقارنة بصينية وهي في طريقها الى الى الجودة اليابنية وسف نرى قريبا المقارنة بينها وبين البظائع الكورية واليابانية مع ملاحظات ان اكثر الشركات التايونية لها مصانع في البر الصيني

    رد
  14. focaljob
    focaljob says:

    تايوان من المدن الرائعة والصناعات القائمة فيها بدات تنافس البضائع اليابانية
    رحلة موفقة
    ما الجديد في المعرض ؟؟؟

    رد
  15. alabsi
    alabsi says:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
    كيف الحال اخ شبايك
    ياخي مشاء الله عليك لي اكثر من سنة وشوية متابع كل مواضيعك وكلة فيها فائدة

    ياريت لو ترسلي ايميلك ابغي استشيرك في موضوع يخص التسويق

    رد
  16. هاني
    هاني says:

    تحية طيبة وبعد،

    أعجبني مقالك هذا عن تايوان، وشدني وصفك الدقيق لمجريات الحياة فيها. وشكرا للوصف.

    رد
  17. زائر كريم
    زائر كريم says:

    اخي رؤوف سعدت بمرافقتك لتايوان عفوا سعدت بقرائة تدوينتك عن تايوان صدقني استمتعت بالقرأءة وابحرت معك وكأني معك بهذه الرحلة القصيرة والرائعه

    رد
  18. أسامة
    أسامة says:

    شكرا لهذه المقالة وطريقة سردك االرائعة
    يوجد كثير من الاشياء في هذه البلاد وأقصد (ماليزيا – تايوان – الصين ) فأنا أنا في كوالالمبور عاصمة الدولة الاسلامية ماليزيا أكمل دراستي الجامعية ولقد شاهدت الكثير من الاشياء كاشارة المرور وغيرها والتي هي من صنعهم ولكنهم يعتبروها عادية الان بالنسبة لهم فقد اصبحوا من اكبر الدول المصدرة للتكنولوجيا على مستوى العالم وهي أيضا واحدة من اجمل الدول السياحية و بسبب أمطارها الغزيرة و جوها المعتدل طوال العام فهي تلبس ثوبا اخضرا طوال العام اتمنى من كل القراء ان يستطيعوا هذا البلد الجميل والرائع .

    رد

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *