قصة نجاح شرطة نيويورك في كسب القلوب والعقول

,

دعونا اليوم نتناول قصة نجاح على المستوى الانساني، لا التجاري أو المالي، قصة نجاح شرطة نيويورك، والنجاح هنا يتمثل في اكتساب احترام المواطنين، وخفض معدلات الجريمة. لا تقلق، لن أدخل معترك السياسة وحواريها، ولكني فقط أحببت أن أملأ فراغا في المحتوى العربي، إذ أن قصص نجاح العربية للشرطة عادة ما تتمثل في القبض على عصابة أو تدريب شرطيين أو منع جريمة، وغير ذلك لا تجد، رغم أن الأمر يتسع ويشمل الكثير والكثير مما يجب تغطيته، ودون تأخير دعونا نبدأ:-

البداية مع نظرية النوافذ المحطمة

لعل البداية تتطلب منك قراءة تدوينتي السابقة عن نظرية النوافذ المحطمة والتي تحكي لنا عن محافظ ممتاز لمدينة نيويورك استخدم نتائج الدراسات والأبحاث على سلوك البشر. هذا المحافظ نتج عن عمله انخفاض معدلات الجريمة في نيويورك، لكن استعصى على هذا الانخفاض ضاحية اسمها براونزفيل أو Brownsville ضمن منطقة بروكلين والذي يشكل الأمريكيون من أصل أفريقي تقريبا كل قاطنيها. استمر الأمر كذلك حتى عام 2007 بعدما تولت شرطية أمريكية اسمها جوان Joanne Jaffe (كما الصورة) منصب رئيس قسم العلاقات مع المجتمعات.

أصل المشكلة

المشكلة التي واجهتها جوان هي أن الشباب صغير السن في هذه الضاحية شكل نسبة كبيرة من المجرمين المتكررين. بدأت جوان بأن جمعت قائمة بأسماء المراهقين والأحداث الذين تم القبض عليهم ولو لمرة واحدة خلال سنة انقضت، وحصلت على 106 اسما. رأت جوان بأن الحدث صغير السن الذين تم القبض عليه بتهمة صغيرة مثل سرقة المارة، اشترك في المتوسط في أكثر من 20 إلى 50 جريمة أخرى لم تضبطها الشرطة. بحسبة بسيطة، هؤلاء الـ106 حدثا كانوا مسئولين عن قرابة 5 آلاف جريمة خلال عام واحد.

فريق عمل مناسب

جمعت جوان فريقا من الضباط المناسبين لعمل متابعة لصيقة لكل حدث من هؤلاء، حيث حرصت على أن يتواصل كل ضابط في فريق العمل مع كل شاب وشابة من القائمة ليخبر كل منهم بأنهم أصبحوا أعضاء في برنامج مخصص حمل اسم J-RIP أو برنامج التدخل لمنع سرقات الأحداث. هذا البرنامج قام على ضمان انتظام كل عضو في هذه القائمة في مقاعد الدراسة، سواء في المدرسة أو الجامعة، وعلى ضمان أن يحصل كل عضو على وظيفة ملائمة بعد انتهاء دراسته، وعلى ضمان مساعدة عائلات هؤلاء الأحداث وعلى توفير الرعاية الطبية لهم ولأسرهم. على الجهة الأخرى، إذا لم تتعاون معنا في هذا البرنامج، فسنحرص في المرة التالية التي نقبض عليك فيها بسبب ارتكابك لجرم على أن تبقى مسجونا لأطول فترة ممكنة وفقا للقانون.

مراقبة لصيقة معرفة عميقة

حرصت جوان على انتقاء كل ضابط معها في الفريق، بحيث يكون له سابق خبرة في التعامل مع الأطفال والأحداث. لضمان تحقيق المراقبة اللصيقة، وفرت جوان حافلة (أتوبيس) ملأته بكل وسائل المراقبة الممكنة لضمان القرب من مساكن ومدارس أعضاء القائمة. هذا الفريق قام كذلك بمتابعة صفحات فيسبوك لكل عضو في القائمة، وتعرفوا على أصدقائهم ومعارفهم ومن يتسكعون معهم. كذلك جمع الفريق قوائم أخرى بأسماء المجرمين الذين تم ضبطهم مع أعضاء هذا الفريق، لمعرفة إذا كانوا لا يزالون يتسكعون معهم أم لا. تحدث الفريق مع عائلات كل طفل / حدث، وتعرفوا منهم على أصدقائهم ومعارفهم وأين يعيش كل منهم وأي مدرسة يذهبون إليها وأي مناطق يتجمعون فيها.

لن نتركك

إذا حدث وتم القبض على عضو في هذه القائمة، كان فريق العمل يذهب إليه ولو في منطقة بعيدة. حين يغيب عن المدرسة، كان الفريق يذهب إليه في سريره ويوقظه ويذهب به إلى المدرسة. حين كان عضو منهم يقابل مجرما ما، كان الفريق يذهب إليه ويقول له لماذا قابلت فلانا في مكان كذا ساعة كذا وفقا للصور التي التقطناها لك. أرادت جوان أن يعرف كل حدث أنه مراقب على مدار اليوم والساعة.

جيد لكن غير كافي

على أن كل هذا لم يكن كافيا. لاحظت جوان أن الشرطة مكروهة في هذه الضاحية، وأن الأهالي لا يريدون فتح أبوابهم (أو قلوبهم) لأفراد الشرطة. حين أرسلت جوان رسائل للآباء والأمهات لمقابلتها لمناقشة مستقبل أبنائهم الأحداث، لم يتفاعل معها أب أو أم قط. بعدها قررت جوان زيارة الآباء والأمهات في بيوتهم، لكنها لاقت الشتائم والطرد. استمر الحال كذلك حتى جاء عام 2007.

مبادرة طيبة من الشرطة

في شتاء 2007 وقبل مقدم عيد الشكر، دخل أحد أعضاء الفريق على جوان وأطلعها على فكرة شرعوا في تنفيذها. تبرع كل ضابط في الفريق من ماله لشراء ديك رومي لتوزيعه بالمجان على أسرة كل حدث في القائمة، وهم جمعوا ما يكفي لبعض العائلات لكنهم أرادوا من جوان أن تتحدث مع مفوض الشرطة (أعلى رتبة) لتمويلهم بالمال لشراء ديك رومي لكل العائلات. غابت جوان وعادت بالموافقة من مفوض الشرطة. فورا تم شراء ما يكفي من الديك الرومي المجمد، وبدأ فريق العمل يعمل ساعات طويلة، واستأجروا شاحنة ثلاجة، وبدؤوا يمرون على بيوت الأحداث، وهم قرروا البدء بأكثر شاب شرير مسبب للمشاكل في القائمة.

من عائلتنا لعائلتكم

ذهبت جوان والفريق وهم في كامل زيهم الشرطي، وطرقوا الأبواب قائلين نحن من الشرطة ونريد إهدائكم ديك رومي مجاني بمناسبة عيد الشكر، هدية من عائلتنا لعائلتكم. هذه المرة اختلفت حرارة المقابلة، إذ فور أن فهم أفراد العائلة الهدف من الزيارة، حتى فتحوا لهم الأبواب ورحبوا بالشرطة التي جاءت في زيارة اجتماعية لا زيارة عمل. حرارة الترحيب لم تتوقف عند حدود كلمات الشكر، بل تضمنت العناق والبكاء تأثرا بالعمل الخيري غير المتوقع.

الشرطة ليست العدو

لم تتوقف جوان عند الديك الرومي، إذ عملت على توزيع ألعاب وهدايا بمناسبة الكريسماس / عيد الميلاد، وبدأت تنظم مباريات كرة سلة بين أعضاء الفريق وأعضاء القائمة، وبدأت تدعوهم لتناول الطعام الفاخر في المطاعم، وبدأت توصل المرضى منهم للمستشفيات في سيارات الشرطة، وبدأت توفر لهم فرص عمل صيفية أثناء عطلة الدراسة، ثم بدأت تنظم حفلات عشاء جماعية لكل حدث مع كامل أسرته، وكانت جوان تستقبل كل حدث يأتي ملبيا دعوتها بعناق طويل دون أي استثناء. فوق ذلك، نظمت شرطة نيويورك مسابقة شطرنج، حيث يلعب 50 حدثا ضد 50 ضابطا في شرطة نيويورك، منهم مفوض الشرطة نفسه!

قصة نجاح شرطة نيويورك في كسب القلوب والعقول

قصة نجاح شرطة نيويورك في كسب القلوب والعقول

لماذا كل هذا؟

لماذا فعلت جوان كل هذا؟ لأنها وجدت أن القناعة السائدة في الشوارع والطرقات هي أن عدو سكان الضاحية هم الشرطة الأشرار الذين يدقون الأبواب ويكسرونها ويقبضون على الأخ والأم والابنة، وفي جو مثل هذا، لا عجب أن يخرج شاب حدث ويهاجم العدو ويعمل على تحديه وخرق القوانين التي وضعها. إذا أردت جوان تحقيق أي أثر إيجابي على أرض الواقع، كان عليها تغيير هذا القناعة بشكل إيجابي.

وما كانت النتيجة النهائية؟

ماذا ترى أنت؟ حسنا، لندع الأرقام تتحدث. في عام 2006 كان متوسط السرقات في شوارع الضاحية التي يقوم بها أحداث صغار السن أكثر من 120 عملية سرقة سنويا. في عام 2011 وبفضل البرنامج انخفضت إلى أقل من 40 سرقة. من الـ106 عضوا في البرنامج، تم القبض على 14 فقط بسبب جرائم خلال السنة الأولى من انضمامهم للبرنامج. هذا النجاح جعل الشرطة توسعه وتطبقه في ضواحي أخرى وعلى نطاق أكبر. هنا يجب القول بأن بعض أعضاء الفريق استمروا في جانب الجريمة وانتهوا في غياهب السجون. نسبة 100% لا يمكن تحقيقها مع البشر، اعلم هذا جيدا لكنه لا تدعه يوقفك عن محاولة تحسين البشر وحياتهم.

الشاهد من القصة

لعل العقلية العربية في موقف مماثل كانت ستقول لابد من تشديد العقوبة وقطع الرقاب لا تغيير القلوب والعقول. لعلي لست محتاجا للتعليق على ذلك فأنت حتما تعرف ما أود قوله.

دعنا نحلل ما حدث. كانت هناك قناعة سائدة بين الناس وأفراد المجتمع، توجب تغييرها، لكن تغيير القناعات لا يحدث بين ليلة وضحاها. هذه قاعدة ثابتة: تغيير القلوب والعقول يحتاج لوقت طويل وجهد مستمر وتفكير ومراقبة. استخدام القوة مع البشر لا يعود بالنفع، ما لم ترافقه الحكمة واللين والرفق.

في علم التسويق مثلا، تجد هذه الحقيقة ظاهرة، فحين لا تكون الأول في سوق ما، عليك أن تتوقع أن نجاحك في التسويق سيأخذ وقتا طويلا وجهدا متواصلا. حين تريد احتلال العقول والقلوب، عليك بذلك الكثير لفترة طويلة دون انقطاع.

الآن، أنت ماذا وجدت في ثنايا القصة وترى وجوب تخصيصه بالذكر والملاحظة؟ وهل تريد المزيد من مثل هذه القصص؟

اقرأ كذلك تدوينة قصة نجاح الحملة التسويقية الشهيرة ’ أنا أحب نيويورك ‘ أو كيف تجعل القبيح وجهة للسياح

18 ردود
  1. أحمد سعد
    أحمد سعد says:

    أعجبتني القصة بمعناها و مغزاها ، و كان فيها أيضا جانبا من التسويق ..

    ( التسويق لتحسين العلاقة و كسر الحاجز ) ، لكن العنصر الأهم أن الفريق كان صادقا في هدفه .. و قد بدى هذا واضحا من النتيجة التي وصل إليها .

    و تحية لكل القادة الذين يشجعون و يدعمون مثل هذه الأفكار .

    رد
  2. د محسن النادي
    د محسن النادي says:

    لاحظ امر مهم جدا
    وهو العلاقه الانسانيه وليست المهنيه هي التي كسرت حاجز الخوف والعدائيه بعباره اخرى اتمت الصفقه.
    لذلك في التسويق تكون للكلمه.. الابتسامه… وحتى حبه حلوى تعطيها للزبون الاثر الكبير في اتمام العمل….اعرف مسوق لا يخلو جيبه من التوفي وقطع الشوكلاته اللذيذه ولا يدخل في عمل الا انجزه

    قصة مليئه بالافكار
    ودمتم سالمين

    رد
  3. محى محمد عبد الهادى
    محى محمد عبد الهادى says:

    نعم اريد المزيد من هذه القصص ووجدت فيها معانى كثيره اهمها يجب ان نفكر خارج الصندوق فى اى وضع كنا عليه
    ثانيا لاوجود للمستحيل مع الاراده
    ثالثا الشرطه ممكن ان تحقق اهداف ضخمه بالتقرب من الناس وليس فقط العنف
    رابعا اريد ان اسأل قراء شبايك الأعزاء هل ممكن تطبيق ذلك فى وطننا العربى وخصوصا فى الدول التى يسود فيها الاضطرابات السياسيه والاقتصاديه ؟

    رد
  4. محمد الملا
    محمد الملا says:

    قبل فترة قرأت كتاب #البديل_الثالث للمؤلف القدير #ستيفن_كوفي وأعتقد إنه يا هذه القصة نفسها أو مثلها موجود في الكتاب

    الكتاب يتحدث عن عشرات القصص من نفس السياق … تحويل حالة الصراع بين أطراف متضادة إلى حالة تعاون وقصة نجاح

    بوركت عزيزي وأنصحك بالكتاب

    رد
  5. احمد الشمراني
    احمد الشمراني says:

    من باب خبرة وزيارتي لأكثر من 35 ولاية في بلاد العم سام. لم أُلاحظ رُقيا في التعامل مثل شرطة نيويورك، كانوا دائماً يضحكون مع المارة وخصوصاً مع الأطفال في الحديقة العامة. وايضاً في احد المواقف الجميلة، كنت أبحث عن شخص يلتقط لي صورة مع أخي، وكان الكل مشغولا وتفاجأت بالشرطية تطلب هاتفي النقال لإلتقاط صورة جميلة لنا. بالمقابل في ولاية تينسي، مدينة ناشفل، طلبت من الشرطي تصويري مع بعض الاصدقاء، لكن كان رفضه حازمه، وكيف تتجرأ ان تطلب مني تصويرك 🙁 واجهت الكثير من الشرطة العنصريين في امريكا، والكثير منهم يرفض الإبتسامة والسبب انهم يَعتقدون انها تُنقص من هيبته كضابط شرطة. لكن إحترافية التعامل وجدتها بالتأكيد في نيويورك وايضاً في فلوريدا لطبيعتها السياحية.

    الثقافة السائدة في العالم العربي هيَ فرض القوة والإحترام على الجميع، وكأنها تبدوا الطريقة الوحيده التي ممكن ان يعاملوا الناس فيها. في رأيي الشخصي انها تَرسبات قديمة جداً، وللأسف دخلت في المناهج التعليمية لتخريج الضباط، والهدف منها ان يكون الحزم في الاسلوب والتعامل للحصول على النظام والإنضباط.

    الكلمة الجميلة والإبتسامة، قد تُساعد الشرطة على منع جرائم مستقبلية كما فعلت شرطة نيويورك.

    احمد الشمراني

    رد
  6. محى محمد
    محى محمد says:

    الف شكر للاستاذ شبايك هناك استفسار ليه التعليق بيقف ومش بيظهر نرجو التوضيح وشكرااا

    رد
  7. مجاهد محمود
    مجاهد محمود says:

    تجربة ممتازة وتستحق الاشادة وياليت كل مسؤول يقراء ويستفيد من هذه التجربة لاننا في الاسساس نتعامل مع بشر ومن السهولة بمكان لمس انسانيتهم وبالتالي تسهل قيادتهم الي الصواب

    بارك الله فيك اخونا رؤوف ودمت معينا لا ينضب في بث الامل والطموح والافكار المبدعة والمتجددة

    رد
  8. YASSINE AMRANY
    YASSINE AMRANY says:

    بوركت يا طيب مقالة جد مميزة، قال صلى الله عليه وسلم: “ما كان الرفق في شىء إلا زانه” وفي لفظ اخر: ” إن الله يحب الرفق في الأمر كله”. في التعليم في معاملة الناس في كل شىء الرفق مطلوب، الأخذ بطريق الحكمة في الأمر والنهي.
    بالمناسبة أنا من متابعيك ومدمني مقالاتك من سنوات لكن متخفي هههه

    رد
  9. ابو البراء
    ابو البراء says:

    قصة رائعة
    اتذكر صديق لي كان ولازال الكثير من الزبائن يتهافتون على محله دون المحلات الأخرى رغم ان بضاعته متشابهه مع غيره
    يقول لي ان السبب ذكره الكثير من زبائنه وهو ان لديه ابتسامة صادقة وامانة في التعامل

    رد

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *